ساندرز ونتنياهو: الضمير اليهودي في عراء الإبادة

mainThumb

28-04-2024 11:38 PM

في التقدير الأقلّ، ومن دون حاجة إلى نفخ وتضخيم وتفخيم، جديرة بالتنويه المساجلة العلنية بين يهودي أمريكي مثل بيرني ساندرز، سناتور ديمقراطي ومرشح سابق لرئاسة الولايات المتحدة وأحد واجهات يسار أمريكي اجتماعي أوسطيّ النهج، من جهة أولى؛ وبين يهودي إسرائيلي يحدث أنه رئيس حكومة الاحتلال، الأطول عهداً في المنصب، العنصري الاستيطاني، ومجرم الحرب بامتياز، من جهة ثانية.
الثاني، نتنياهو، أطلّ على الجمهور الأمريكي، شيباً قبل الشباب عملياً، ويميناً أبيض السحنة، شعبويّ العقائد، ترامبيّ البصيرة والبصر، متصهين منحاز لجرائم الحرب الإسرائيلية؛ ليقول، بتكشيرة وعيدٍ واستهتار واستغفال عقول، إنّ اعتصامات طلاب الجامعات في تأييد الشعب الفلسطيني وإدانة الفاشية الإسرائيلية والإبادة الجماعية، هي «معاداة للسامية»، و«تُذكر بما حدث في الجامعات الألمانية خلال ثلاثينيات القرن الماضي أثناء الحكم النازي».
الأوّل، ساندرز، طالب نتنياهو بعدم الخلط بين إدانة القتل ومعاداة السامية، لأنّ «القول إن حكومتك قتلت 34 ألفاً في 6 أشهر»، وتدمير جامعات ومدارس غزة، وحرمان 625 ألفا من التعليم، وتقويض بنية القطاع التحتية ونظامها الصحي و221 ألف مسكن؛ كلّ هذا «ليس معاداة للسامية، ولا مناصرة لحركة حماس». قبل هذه التصريحات كان ساندرز قد استخلص، بجلاء لا يحتمل التأويل المعوّج، أنّ ما تخوضه إسرائيل في غزة بات يستهدف القضاء على نسيج حياة الفلسطينيين.
ولا يضفي بُعداً خاصاً على هذا السجال سوى تدخل وزارة خارجية الأوّل، ساندرز؛ للتأكيد القاطع بأنّ أقوال الثاني، نتنياهو، لا تمثل «دعوة للضغط» على المتظاهرين، أو التدخل في السيادة الأكاديمية والقانونية الأمريكية؛ رغم أنّ رئيس حكومة الاحتلال تقصد أن يوجّه رسالة باللغة الإنكليزية، قال فيها حرفياً: «هذا أمر غير مقبول. يجب أن يتوقف»؛ كما امتدح التصرّف المختلف (أي القمع واستدعاء الشرطة والتلويح باستخدام الحرس الوطني…) للمسؤولين المحليين والفدراليين، ولكن: «لا يزال هناك المزيد الذي يجب القيام به».
صحيح، بالطبع، أنّ البون قد يكون واسعاً بين ساندرز ونتنياهو، ضمن مستويات شتى وظيفية وسياسية وإيديولوجية؛ وأنّ الاختلاف بينهما، بصدد سياسات الاحتلال الاستيطانية والعنصرية تحديداً، ليس جديداً وسبق أن تكرر. ليس أقلّ صحة، في المقابل، أنّ الأوّل يعكس حالات/ تحوّلات ضمير يهودي قياسي، عابر للجغرافيات أو الحساسيات الإيديولوجية أو الأقوام، يصحو بين الفينة والأخرى وسط عراء مفتوح مكشوف؛ بعض أبرز عناصره هي الفاشية الإسرائيلية المستعادة في صياغات أدهى وأقبح وأبشع، وبعضها الآخر توحّش إسرائيلي همجي يناقض كلّ تنميطات اليهودي/ الضحية ويقلبها رأساً على عقب نحو اليهودي/ الجلاد.
ذلك لأنّ ساندرز هذه الأيام، الذي يقرّع نتنياهو ويصحح نظراته الحولاء إلى التاريخ النازي ويطالبه ألا يستغفل عقول الأمريكيين؛ قد لا يكون ساندرز تشرين الأول (أكتوبر) 2023، الذي أفتى بأنّ وقف إطلاق النار مع تنظيم مثل «حماس» أمر «مستحيل»، بمعنى أن التبدّل هنا تعديل واستفاقة على الحقائق المريعة. وهذا لا يشفع له، وفي صالحه، من حيث القاعدة الأخلاقية المبدئية، فحسب؛ بل لعلّ شفاعة كهذه تنفع نموذجاً لاستقراء ضمائر يهودية أخرى هنا وهناك في العالم، انطلت عليها الأكاذيب الإسرائيلية حول وأد الأطفال واغتصاب النساء في مستوطنات غلاف غزّة يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ثمّ أبصرت طبيعة التلفيق وابتذال العقول، فالتزمت الصمت تارة، أو اكتفت تارة أخرى بمفردات تعاطف لم تكد تعبر طرف اللسان إلى الشفاه والأصوات.
غير خافٍ أنّ عراءً كهذا له مظانّ أخرى أشدّ ارتباطاً بفظائع حرب إسرائيلية وحشية وهمجية وبربرية، تكفلت بإيقاظ بعض الضمائر الغافلة، لكنها أيضاً نقلت شرارة احتجاج أعمق وأمضى نحو مواقع صحو جامعية وشبابية وشعبية أمريكية لاح أنها غافية راقدة منذ 1968، زمن الانتفاض ضدّ حرب فييتنام.
وفي هذا بعض عظات التاريخ، وشيء من عقاباته أيضاً.

(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد