محمود درويش .. وداعاً!!

mainThumb

10-08-2008 12:00 AM

 


كأنه حلم بعيد.. كان هذا عشية حرب حزيران (يونيو) 1967 عندما بدأت الأخبار تتحدث عن بزوغ نجم شاعرٍ في الأرض المحتلة اسمه محمود درويش وكان الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب، المقيم في دمشق، هو الذي تولىّ?Z التعريف بهذا الشاعر الصاعد الذي ملأ الدنيا لاحقاً وأصبح قلب القضية الفلسطينية النابض التي ذبحت قلبه بطعنات متلاحقة إلى أن رحـل عن هذه الدنيا بعيداً عن فلسطين في أحد مستشفيات الولايات المتحدة الأميركية.

أقام يوسف الخطيب، الذي كان وكمال ناصر حادييْ البعث في تلك الفترة المضطربة من بدايات ستينات القرن الماضي، ندوة في إحدى قاعات جامعة دمشق للتعريف بالشاعر الفلسطيني الناشِئ الذي أهدته الأرض المحتلة منذ العام 1948 إلى قضية فلسطين التي كان وجعها لا يزال يوجع كل الأمة العربية وقد كرس تلك الندوة للقصيدة المتحدية الرائعة :.

سجِّل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف.

وأطفالي ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف .

كانت هذه القصيدة بمثابة الرد على الذين لم تستوعب قومجيتهم الطافحة ان منتسباً للحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، الذي ضم أيضاً توفيق زياد وأميل حبيـبي وسميح القاسم، من الممكن أن يكون عروبياً ويفخر بانتمائه إلى الأمة العربية.. وأذْكر رغم أن ذكريات تلك المرحلة البعيدة.. البعيدة باتت كبقايا الوشم في ظاهر اليد أن يوسف الخطيب بسبب حماسه لمحمود درويش (الشيوعي في حزب راكاح الإسرائيلي) قد تعرض لانتقادات حادة من بعض بعثيي ما بعد حركة الثالث والعشرين من شباط 1966 مع أن المفترض ان هذه الحركة كانت حركة يسارية وتربطها صلة قربى بالإتحاد السوفياتي (العظيم) وبالماركسية ؟ اللينينية!!.

بعد حرب حزيران (يونيو) وصلت تأوهات أهل الـ 48 من خلال قصيدة محمود درويش : يمـّ?Zا.. مويل الهوى.

يمـّ?Zا.... مويليا.

ضرب الخناجر.. ولا.

حكم النذل فيّ?Zا.

هذه القصيدة التي غدت نشيداً لكل الشباب العربي الذين كانت حزيران بالنسبة إليهم ليست مجرد احتلال أرض وضياع قضية بل أيضاً نحرُ كرامة وفي وضح النهار.

في العام 1969، إذا لم تخنِّ الذاكرة، أقيم مهرجان الشباب العالمي الذي كانت تقيمه الشبيبة الشيوعية سنوياً في إحدى عواصم اليسار والتقدمية في صوفيا عاصمة بلغاريا وكان محمود درويش ومعه سميح القاسم ضمن وفد شبيبة راكاح إلى هذا المهرجان وكان هذا سببٌ لحملة شديدة شنها البعث ؟ السوري عليه وصلت الى حد فصل الكاتب فيصل الحوراني من عضوية حزب البعث الذي كان أحد أعضاء وفده الى المهرجان المذكور لأنه تجرأ وإلتقاه وسلم عليه والى حد منع نشر أشعاره بقرار رسمي في الصحف ووسائل الإعلام السورية.

في ذلك الوقت كان القومجيون أكثر من اللزوم يعتبرون ان لقاء أيٍّ من أهل لـ 48 حرامٌ و تطبيع وخيانة للقضية الفلسطينية ولذلك فإنهم كانوا يرفعون راية مقاطعة محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وأميل حبيبـي، صاحب أبو النحس المتشائل ويعتبرون ان لقاء أيٍّ منهم يعتبر خيانة وزندقة سياسية!!.

لم ألتق محمود درويش وجهاً لوجه وأتعرف عليه إلا في بدايات سبعينيات القرن الماضي حيث انضم، بعد رحلة منافٍ توقف خلالها في أكثر من عاصمة، الى ركاب السفينة البيروتية التي كانت تشبه سفينة نوح.. وفي أحد أيام حصار العاصمة اللبنانية في العام 1982 وخلال استراحة بين القصف والقصف ذهبنا لزيارته في شقته الواقعة في بناية يفصلها عن مقهى الغلاييني الشهير شارع كورنيش البحر فوجدناه واقفاً على شرفة منـزله يراقب الطرادات الحربية الإسرائيلية التي كانت تتطارد في عرض البحر البيروتي كأسماك القرش الفتاكة المتوحشة.

حاولنا اقناعه بضرورة مغادرة ذلك المكان الخطر فعلاً الذي يقع على خط النار وفي منطقة تتعرض يومياً لعشرات ألوف القنابل والصواريخ لكنه رفض.. ولقد سمعته يتمتم : لقد مللت التنقل والانتقال والهجرات.. والرحيل.. في اليوم التالي التقيناه مجدداً.. كانت بيروت، كما وصفها الشاعر نزار قباني، تبدو كفتاة مذبوحة من الوريد الى الوريد ملقاة فوق صخرة الروشة،.. ابتعنا نحو رطلٍ من لحم الضأن من دكان يقع في شارع السادات يملكه والد نمر حمّ?Zاد المستشار الحالي للرئيس محمود عباس وذهبنا الى بناية الحمرا سنتر وأغلقنا الأبواب خشية من المتطفلين الذين تجذبهم في العادة روائح الشواء.. واستمتعنا بوجبة شهية تغزّ?Zل فيها راحلنا الكبير بشعرٍ ونثرٍ كما لم يتغزل عمر بن أبي ربعية بمحبوباته الكثيرات!!.

بعد الرحيل عن بيروت، الذي لا يشبهه إلا الرحيل عن الأندلس، بقيت ألتقي محمود درويش في مناسبات كثيرة رغم أنه كان يقيم في باريس وكنت أقيم أنا في لندن.. وخلال هذه اللقاءات أقنعته بأن يعطي مذكراته لمجلة المجلة التي كانت تصدر في عاصمة الضباب وكان يرأس تحريرها الإعلامي المصري المبدع عماد أديب.. وهكذا فقد سجلنا له على مدى ثلاث عشرة ساعة في جلسات طويلة جرت كلها في منـزل عماد الواقع في عمارة في ساحة سْلون سكوير عند نهاية شارع كنكزرود الشهير.. ولقد أصر محمود بعد إن انتهينا من تفريغ أشرطة التسجيل على مراجعة ما جرى تسجيله وما جرى تفريغه بنفسه.. لكنه بقي يحتفظ بكل هذا رحمة الله عليه.

ربما لا يعرف كثيرون ان محمود درويش هو الذي كتب خطاب إعلان الإستقلال الذي ألقاه ياسر عرفات (أبو عمار) أمام دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في الجزائر في تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1988 وأنه هو الذي كتب خطاب رئيس الوفد الفلسطيني الى مؤتمر مدريد وأنه كان دائم الحضور في كل محطات المسيرة الفلسطينية خلال الأربعين سنة الماضية وأنه في حقيقة الأمر لم يستقِلْ من اللجنة التنفيذية لأنه كان معارضاً لاتفاقيات أوسلو رغم اعتراضاته الكثيرة عليها بل لأنه يرى ومعه الحق أنه أكبر من كل المناصب والمواقع السلطوية وهذا ما جعله يستقيل قبل ذلك من موقع الأمين العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين.

بدأت رحلة وجع القلب معه بعد الرحيل من بيروت بعامين والثابت ان هذه الرحلة بدأت معه بعد هزيمة حزيران (يونيو) المنكرة.. والمؤكد ان قلبه المـُرْه?Zف الرقيق لم يحتمل ان ينتهي الوضع الفلسطيني الى ما انتهى إليه فذبل بعد هذه الطعنة وفارق الحياة بعيداً عن فلسطين.. رحمك الله يا محمود.. يا فقيد الوطن الذي يسكن كل خلية من خلايا جسمك.. يا فقيد الأمة العربية المجروحة في كبريائها لأن فلسطين أحتلت ولأنها لا تزال محتلة.الرأي

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد