محاسن "الاستقصاء" في كشف الأخطاء

mainThumb

04-10-2008 12:00 AM

يوما بعد يوم تبرز أهمية تشجيع الإعلاميين الأردنيين على خوض تجربة الصحافة الاستقصائية القائمة على توثيق المعلومات بأسلوب منهجي موضوعي, يستند إلى فرضية قابلة للنفي أو التأكيد, وذلك بهدف كشف الأخطاء والتجاوزات المتوارية وتصحيح الانحرافات في المجتمع من أجل المنفعة العامة.

فهذا الطراز من التقصي الشاق والمضني يحدث غالبا لأن إعلاميا ما انزعج من تصرف أو من سلسلة أفعال مترابطة تقع خلال فترة زمنية معينة على يد متسبب أو أكثر, على نحو منهجي بما يؤثر على سلامة المجتمع; الضحية.

لكن ليس كل إعلامي قادرا الغوص في مثل هذه المهمة الاحترافية التي تتطلب شخصية مرهفة, حسّاسة, لمّاحة وصبورة, تتحرك بدافع ذاتي في غالبية الأحيان. مثل هذه الصفات تعين الإعلامي على نبش الحقيقة عموديا, فيتحول إلى شاهد مقنع وموثوق قادر على شرح أبعاد القضية المفترض أن تهم أكبر عدد ممكن من الناس, على أمل تشجيع السلطات والجهات المتسبّبة, سواء عن قصد أو من دون قصد, على إصلاح الخلل.

هذه المنهجية تتقاطع مع أسس ومعايير الريبورتاج الصحافي التقليدي (التحقيق الصحافي), بمختلف أصنافه. هذه المعايير يفترض أن تتأسس على قاعدة ثقافة إعلامية ومجتمعية, وسلوك مهني راق قائم على الصدقية, الوضوح, الموضوعية, التوازن والدقة الصارمة ضمن سياق إخباري رشيق ومتناسق بعيدا عن أسلوب الإثارة والتخندق والتحيّز واحتكار الجهل والصواب. في عالمنا العربي الذي يحبو على طريق الإعلام, ليس بالضرورة أن تتطرق مواضيع هذه التحقيقات الاستقصائية إلى ظواهر أو قضايا تصنّف في خانة القضايا السياسية الحسّاسة المرتبطة بفساد ما قد يمارسه متنفذّون في عالم المال والأعمال. تلك الفئات تطمح لإبقاء تصرفاتها طي الكتمان, أو في دهاليز السياسة كما حال فضيحة تنصت ووترغيت التي أطاحت بالرئيس الأمريكي الجمهوري ريتشارد نيكسون (1972-1974), أو بالجريمة المنظمة من دعارة والاتجار بالبشر, وتهريب مخدرات. التعاطي مع هذه العناوين فيها مجازفات كثيرة قد تهدّد حياة الصحافي ومرؤوسه في عالمنا الحالي, لأنها قد تجبر السلطات على فتح تحقيق قضائي أو نيابي كما حصل في ووترغيت التي كشفتها صحيفة "الواشنطن بوست" لترسي معلما في تاريخ الصحافة عموما وتخط تقاليد جديدة في تاريخ صحافة الاستقصاء أو التحرّي.

لكن بإمكان الصحافي العربي معالجة قضايا وظواهر مجتمعية مهمة تبدأ بتلوث البيئة, سلامة مياه الشرب والري وصلاحية الحافلات العامة وسلامة ألعاب الأطفال البلاستيكية, مرورا بتهريب المخدرات للسجون بقصد الاتجار, وانتهاء بالأخطاء الطبّية المتكررة ومكاتب خدمات طلابية غير مرخصّة تدعي أنها تابعة لجامعة افتراضية في أوروبا أو في العالم العربي, ليكتشف المنتسبون إليها لاحقا أنها مطابع لإصدار شهادات مزورة. وقد يفكّر صحافي مبدع في تقصّي فضيحة شركات البورصات العالمية; كيف انتعشت في غياب الرقابة والقوانين, وسائل عملها بالتفصيل وكيف خدع فيها المثقف قبل الأمّي. وقد تذهب صحافية زميلة إلى تقصي فرضية "تأثير انهيار هذه الشركات على الاقتصاد الوطني والطبقة الوسطى"?

الهدف الأسمى من الصحافة الاستقصائية الاحترافية ليس البحث عن النجومية أو الثأر أوالابتزاز, وإنما كشف المستور وتوثيق المشكلة على أمل لفت نظر الجهات المتسبّبة لمعالجة القضية وتحقيق العدالة والشفافية والمساءلة; وهي أساسيات عمل السلطة الرابعة.

تجربة إكساب مهارات التحقيق الاستقصائي في دول التحولات السياسية والاقتصادية, كبلدنا, تثبت نجاحا حين يتم تناول موضوعات تهم الحياة اليومية للمواطن من دون إثارة محاذير تضعها الحكومات لدى التطرق إلى الفساد المالي والإداري والسياسي والاقتصادي.

ويظل السؤال; لماذا بقي هذا النوع من الإعلام المحترف شبه غائب عن صحافتنا العربية, سواء المكتوبة أوالمسموعة والمرئية بعد عقود على تجذير طقوسه في المجتمعات الغربية, مع استثناءات قليلة سنّها عدد محدود من الفضائيات العربية شبه المستقلة إذ حاولت البحث ما وراء الخبر من خلال ريبورتاجات أكثر عمقا?

في مقدمة أسباب النكوص في الإعلام العربي, غياب قوانين تنص صراحة على حق حصول المواطنين, بمن فيهم الصحافيون, على المعلومات في العالم العربي (باستثناء الأردن) تحت طائلة معاقبة الطرف الذي يحجب المعلومات المتاحة بحسب القانون. هذه التشريعات وسلاسة تطبيقها كانت السبب الأساسي في إحداث ثورة الصحافة الاستقصائية في الغرب في منتصف ستينيات القرن الماضي. لكن ذلك يتقاطع مع تابوهات اجتماعية ودينية ومجتمعية, وممنوعات أخرى واردة في قوانين حماية أسرار الدولة وتصنيف الوثائق الرسمية إضافة إلى قانون العقوبات وغيرها, واستمرار العمل في قانون الأحكام العرفية في بعض الدول العربية, ما يبقي السيف مسلطا على رقاب الإعلاميين.

من الأسباب الأخرى تشابك المصالح بين السلطة والشخصيات العامة والخاصة التي تشرف على القطاع الإعلامي في غالبية الدول العربية حتى التي أظهر الإعلام فيها مستوى عاليا من الجرأة والانفتاح والتعددية مثل لبنان والكويت. وفي أحيان كثيرة يستبدل عصر الهيمنة على قطاع الإعلام الذي يظل أهم عناصر الدعاية والتكوين السياسي والثقافي للمواطن, بالعلاقات الحميمة القائمة بين السلطة والنخب السياسية والاقتصادية التي باتت تهيمن على هذا القطاع الحيوي على أسس استثمارية وتجارية بحتة. فخرجت السلطة من الباب لتدخل من الشباك بالتواطؤ مع القطاع الخاص الذي يفضّل استمرار سياسة الأمر الواقع, على حساب الغالبية الصامتة.

الأسباب الأخرى تتمثل في:

- عدم إيمان رؤساء التحرير والناشرين بتخصيص ميزانيات لهذا النمط من العمل وتفريغ الصحافي الأكفأ للعمل الاستقصائي مع أن هذا الصحافي يصبح بعد انجاز مهمته مرجعا موثوقا في هذا القطاع وبإمكانه كتابة ثلاثين ريبورتاجا بزوايا مختلفة, بل وربما كتابا من كم المعلومات الهائل التي يجمعها, ما يعني في نهاية المطاف رفع سوية المنتج الإعلامي وزيادة عدد القراء وتشجيع وكالات الإعلان.

- غياب الثقافة القانونية لدى غالبية الإعلاميين وعدم توفير محام دائم في المؤسسات الإعلامية تكون مسؤوليته مراجعة المادة من الناحية القانونية للتأكد من أنها لا تحتوي على أي ثغرات قانونية قد تفتح الباب أمام محاكمة الإعلامي.

- غياب أو ضعف عملية تأهيل وتدريب الصحافيين في غالبية المؤسسات الإعلامية سواء الخاصة أو العامة.

- تدني مستويات الثقافة العامة, عدم الإلمام بمهارات الكمبيوتر ومحدودية اللغات الإضافية لدى إعلاميين, فلا يتمكن من قراءة كم هائل من المعلومات المرتبطة بالموضوع من خلال محركات البحث الالكترونية.

- تدني الرواتب وغياب الحوافز المهنية ورغبة الناشرين في جني الأرباح ولو على حساب نوعية المنتج.

- والأهم, خشية حراس البوابات في هذه الصحف من إحراج المتسببين وخسارة النفوذ والمصالح.

- غياب ثقافة سياسية اجتماعية تقبل بالرأي والرأي الآخر, وتحرص على معالجة الظواهر المقلقة في المجتمع بدءا بالاعتراف بوجودها قبل توثيقها وإبرازها للناس بقالب محترف.

- رهبة المسؤول بدءا بأصغرهم من المحاسبة, واقتناعه بأنه حارس شرعي على عقول الناس وغياب القناعة الرسمية بضرورة بناء جسور التواصل مع المجتمعات بشفافية وعدالةٍ.

- استمرار التصارع بين أجنحة متنافسة داخل غالبية الدول يقع ضحيتها من يتخندق وراءهم من الساسة والإعلاميين.

- إذا المناخ العام وتخبط السياسات الإعلامية, يحملان عديد عوامل إحباط على أن ذلك لا يجب أن يثني الباحثين عن الحقيقة من نبشها أو كشف بعضا منها حتّى لا ينجر الناس, كما هو الحال الآن, إلى فضاءات الشائعة والإعلام "البرنجي" المستورد.العرب اليوم




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد