أسباب تقهقر الدعم السريع وخيباته

mainThumb

26-05-2025 12:28 AM

إن هذه الحرب البوار التي اندلعت قبل عامين في بلاد النيلين، امتازت بغزارة مادتها، وتنوع موضوعاتها، ونفاسة تضحياتها، ونحن حتى نسطر هذا المقال المتهافت، وجدنا أنفسنا في حاجة إلى الرجوع إليها كلها، واستيعاب النظر فيها، ولن نتخير في نسج هذا المقال وسرده، اللفظ المونق، والتعبير الخلاب، والبيان المُبْهَِج، ولكن سنسعى فيه أن نصور مقدار الغبن الذي كان يملك علينا أمرنا، ونحن نحتفي بالأمل في أن تعود إلينا تلك الولايات، والمدن، والقرى، والنجوع، التي سقطت في أيدي الدعم السريع، وطغى الأسى على حياتها طغياناً كاملاً، وحتى نأخذ عقولنا بالمهل والأناة، ونستصحب مسيرة هذه القوات التي سكنت بعد حركة، واسترخت بعد نشاط،قوات"حميدتي" التي كان بامكانها أن تكون أخصب، وأجدى، وأبقى في القلوب، فقد شاهد "محمد حمدان دقلو" افتنان الشباب الناقم الساخط على "المشير البشير" به، وشغفهم بجنده، بعد سقوط حكم الطاغية الذي انفصل عنه "حميدتي" كل الانفصال، لقد كان في استطاعة "الفريق أول حميدتي"، أن ينال من هذا الهيام ما يبتغيه، وأكثر ما يبتغيه، لو أخفى في نفسه هذه النزعة، نزعة الثقة فيمن حوله، والتسليم والاذعان بكل ما يتناهى إلى سمعه، "فحميدتي" الذي لم يجد أماً تعلمه، أو أباً يرشده، قد أنفق حياة فارغة مضنية، لم يتعلم إلا بمقدار ما استطاع، وبمقدار ما أتاحت له هذه الحياة العنيفة أن يتعلم، لم يكن إذن حميدتي المحدود المعرفة يدقق في وجوه خاصته، أو يتقن قواعد الاسناد وتمحيص الرواية، أو حتى يتتبع الترتيب الزمني في استعراض آثار هذا الجيش العتيد الذي سيقاتله، لو فعل هذا، لنجا من النقد اللاذع، والتعريض الممض، والزراية الساخرة من أعوان المليشيات ورعاتها.
وقوات الدعم السريع التي ينثلم فؤادها، ويحطم قلبها، ويقرح كبدها، ألا تنخرط في هذا التداعي الذي اختارته لها عاداتها الموروثة، وتقاليدها المغروسة، واختارته كذلك طبيعتها التي تسعد بالموت في أي خلاف ناشب، كان في مقدور قائد هذه المليشيا أن يمسح عن رأسها غبار الهمجية والضعة، ويأخذ بيدها في طريق المجد، ولكن هذه القوات كانت منقبضة عن الرفعة، غير حافلة بها، ولا مصغية إليها، وانما كان هاجسها أن تتكالب ألويتها وكتائبها، على قاطني الشمال والوسط وأن تسومهم الخسف والعذاب في عقر دارهم، وأن تظل تتغنى بانتصاراتها التي تحققها في تلك المواقع، وتستعرض مواقف بأسها وشجاعتها في ميادين الوغى، وتنعى على قبائل الوسط تخاذلهم وقعودهم عن حربهم.
لقد كانت تلك القوات المنتشية بظفرها، لا تعرف الغاية التي إليها تسير، ولا المصير الذي منه تقترب، لم تكن تدرك أن الجزيرة، وسنار، وجبل موية، وسنجة، والمناطق الغربية من ولاية النيل الأزرق، بمساحاتها الواسعة الممتدة، الكثيرة الشعب والحنايا، هي الأصقاع والجهات التي أرسلتها إليهم خطط الجيش وتدبيره، ففي تلك السهول الشاسعةالمنبسطة، والتضاريس الرحيبة المكشوفة كانت تنتظرهم جحافل الموت الزؤام متلهفة مشتاقة.
وفي جبل موية بدأت حشود "المشاة" في دك القوة الصلبة للدعم السريع، تؤازرها في ذلك قوات "المدفعية"، و"الطائرات المسيرة" التي كانت عاملاً فاعلاً في تحقيق الانتصار على المليشيا المنخوبة الفكر، وحتماً لن ننسى "القوة الجوية الضاربة"، التي جعلت مواقع وارتكازات الدعم السريع مبنية على النقص، ماضية إلى الفناء، "الطيران الحربي" الذي كان مطمح بصر المليشيا، وحديث أمانيها العجاف، أن تمتلك طائرات مرعبة مخيفة، لها القدرة على احداث تغيرات جوهرية في مسارح الحروب، لأجل ذلك سعت وخابت في مسعاها، لأن تكون "حكومة موازية" باستطاعتها جلب مثل هذه الطائرات التي كان كباتن هذه الطائرات وملاحيها يرسلون فيضاً محموماً من نظراتهم الناقمة، إلى سيارات الدفع الرباعي ومدرعات المليشيا المجنزرة، قبل أن تضعط أصابعهم في رتابة على أزرار الصواريخ التي تجعل الهلاك ينتفع بجاهها، ويفئ إلى رفدها.
هذه التقنيات النوعية، جعلت "مليشيا آل دقلو" لا تصبر على جهد، ولا ترغب في دواس، ولا تطمئن إلى قطب من أقطابها يدعي الكمال، وصناديد الدعم السريع، إذا صدق أن للدعم السريع صناديد، لم تكن تحركاتهم بخافية عن أعين "استخبارات الجيش"، التي استطاعة أن تلتف حول هؤلاء القادة، وأن تدير حولهم سياجاً يفصلهم عن غيرهم، ولعل من نافلة القول أن نذكر أن أقوى مظهر لجموح أخلاق هذه المليشيا، وتعدد خوالجها، نجاح "استخبارات الجيش" في استقطاب عدداً لا يستهان به من زعماء وأعيان الدعم السريع، فلم يكن أيسر على القوات المسلحة من أن تبيد نصف هذه المليشيا التي تناثرت من حولهم لعنات الناس الطائع منهم والعاصي، لأن قادتها لا يعيشون في رضى وقناعة، وكيف لجماعة لم تجد ما يعضد وحدتها، ويربطها آصرة إلى آصرة غير بغض الشمال، وكل ما يصل للشمال بصلة، أو يعود إليه بسبب، من أن تعيش في رضا وقناعة؟. كيف لطائفة جرت على جرثومتها السخط والنكال، وتعوزها الحاجة الدائمة للشعور بقوتها ومضاء عزمها، أن تشعر بالسعادة والارتياح، كيف لأصحاب التمائم الذين يأنفون من الورع، وينفرون من الحق، ويتهالكون على اللذة، وتدافع عن مسلكهم أحزاب "الحرية والتغيير" ما وسعها الجهد ،و تمجد تجاربهم، وتثني على حربهم التي أقامتها في "العاصمة" فأطالت المقام، ثم دفعتهم القوات المسلحة لأن تطوف في الآفاق البعيدة، كيف لأصحاب هذه الأنوف الوارمة، والرؤوس الجوفاء، الذين يهتمون بالقتل والنهب والاغتصاب والترويع، ويحتفلون به، ويكلفون أنفسهم جهوداً لا حصر لها في استمرار وتيرته، فسعادتها في هتك الأبواب المغلقة، والأستار المسدلة، وأن تختلس من هذه المدينة أو تلك، لقد أظهرت مليشيا "آل دقلو" ما كانت تضمر، وأعلنت ما كانت تسر، فوجب أن نلتفت إليهم، وأن نتأهب للدفاع عن أنفسنا أمام بغيهم، فالشيء الذي ليس فيه شك، أن هذا الشعب الذي انتظم مع جيشه في ميادين الوغى، وحمل روحه على كفه، ورفع قدمه لا يدري هل يضعها على أعتاب قصره الجمهوري المحتل، أم على حافة قبره، بعيداً عن العواطف المجردة، والمعاني المطروقة، هو الذي صنع الفارق في هذه المعارك الضارية، فخطط الجيش معروفة، وسننه مألوفة، وعقيدته الراسخة لم تتغير يوماً أو تتبدل، وهي قطع أي يد تمتد إلى السودان، وتسعى أن تبسط نفوذها فيه، والمعارك التي خاضها من قبل، وانتصر فيها أكثر من أن نحصيها في هذه العجالة، ولكن بامكاننا أن نستقصى ما وسعنا الاستقصاء، وأن نحلل ما وجدنا إلى التحليل سبيلا كما يقول الدكتور طه حسين، فلن نجد معركة خاضها الجيش والشعب معا مثل هذه المعارك التي تدور رحاها لصد هذا العناء المتصل، والشقاء المقيم، والتي لن تهدأ ثائرتها إلا بتحرير آخر المدن في دارفور، ثم للجيش والشعب معاً بعد ذلك أن ينهلا من السعادة والرفاهية ضروباً وألوان.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد