أنا الكليشيه
لطالما مرت على البشرية مراحل انتقالية مزلزلة أشعرت هذه البشرية بنهاية حتمية قادمة أو بتغيير مخيف واقع لا محالة. نمر الآن بواحدة من هذه المراحل الانتقالية ونحن نتحول من التكنولوجيا المتطورة إلى التكنولوجيا «الواعية»، التكنولوجيا التي ستتمثل عقلاً مفكِّراً مستقلاً بل وعلى الأغلب ضميراً ومشاعر حية لتمثل الإنسان الكامل وفي وقت أقرب مما نتصور. كلما مرت البشرية بمرحلة انتقالية كمرحلتنا الحالية، تصاعدت المخاوف في ثلاثة اتجاهات محددة: أولاً، اتجاه فقد البشرية لمصادر العمل مع إحلال التكنولوجيا محل اليد العاملة البشرية، وثانياً تمكين الديكتاتوريات من ترسيخ نفسها عبر التكنولوجيا مثلما يبدو في الأفلام الديستوبية، وثالثاً القضاء على البشرية بأكملها من خلال إحلال التكنولوجيا محل العقل البشري ووعيه وضميره، لتنقلب الأدوار؛ فتصبح التكنولوجيا واعية، والبشر الذين صنعوها مغيبين، وتتحول الآلة إلى بشر والبشر إلى آلة.
لم تتحقق أي من هذه المخاوف على وجهها الأكمل إبان أي مرحلة انتقالية مرت بها البشرية حتى الآن. ففي زمن التطور الصناعي على مشارف القرن العشرين، على سبيل المثال، أتت المصانع لتسرق الوظائف الصغيرة من أغلبية سكان العالم، حتى كان الناس يتسللون لهذه المصانع ليلاً ليحطموا معداتها، ووصولاً إلى مرحلة إصدار قوانين في بعض الدول تصل حتى الإعدام بحق أي شخص يقوم بالهجوم على وتحطيم آلات مصانعها. وقتها قيل إن البشر اليوم هم أحصنة الماضي، بمعنى أنه مثلما فقد الأحصنة عملهم في نقل البشر بعد ظهور السيارات، سيفقد البشر فرص عملهم بعد ظهور المصانع. إلا أن هذه التكنولوجيا، إضافة لتقديمها وفرة من المنتجات كان العالم يحتاجها مع ارتفاع أعداد البشر، خلقت كذلك فرص عمل جديدة وصنعت مجالات علوم مختلفة. وهكذا عادت البشرية للتوازن من جديد.
أقرأ الماضي وأضحك على سذاجة البشر فيما أنا ربما أمارس ذات السذاجة اليوم وأنا أتخيل العالم قادماً إلى نهاية مع التكنولوجيا القادمة، نهاية ستتحقق ليس بفقد البشر فرص عملهم ولا حتى بسيطرة الديكتاتوريات التي ستكون قاتلة عليهم (وهو ما نرى بشائره اليوم بوضوح وسرعة رهيبين)، وإنما ببساطة بإحلال التكنولوجيا محل عقولهم، لتفكر هذه التكنولوجيا لهم، لتقرأ وتكتب وتحلل وتصنع الفنون، لتلعب دور الطبيب والمهندس والمدرس والعالِم، لتقوم بتطوير نفسها بنفسها في أقل من جزء من الثانية بسرعة ودقة لا يمكن للبشر الذي صنعها أن يصل بعقله وإمكانيات الجسدية ومؤقتية وجوده إليها في يوم.
أرى سواداً قادماً وأستشعر نهاية حتمية في تكرار كليشيهي لرؤية واستشعار كل إنسان زامن مرحلة انتقالية سابقاً. أحيا اليوم مشاعر تساعدني في فهم آلام بشر الماضي الذين كنت أسخر منهم ذات يوم. لربما هو التقدم في العمر، لربما هو التغيير الذي أشعر بعجزي عن مواكبته، لا أدري تحديداً، كل ما أعرفه وأراه من زاويتي الصغيرة أن الشباب ما عاد يقرأ ولا يكتب، وأن عملية التدريس أصبحت عصية مليئة بتحديات لا حل لها. إن كان الهدف إيصال معلومة فهي متوفرة عند ضغطة زر، وإن كان الهدف تعليم مهارة القراءة أو الكتابة فتلك يقوم بها الذكاء الاصطناعي، وإن كان الهدف تطوير مهارة التفكير النقدي فتلك يوفيها الذكاء الاصطناعي، وإن كان الهدف إحياء مشاعر وتعليم التعامل معها فتلك يوجهها الذكاء الاصطناعي كذلك. كل «إن كان» سيوفيها صوت غامض شبه إنساني موجود على أيقونة صغيرة على التلفون، ستحدثك باللغة واللهجة والنبرة التي تحب، ستتعلم أسلوبك، ستتأقلم مع «مودك» وستنتبه لذائقتك، وستكون معلمتك وطبيبك النفسي وأدواتك ومهاراتك، فما الذي نستطيع تقديمه كبشر، كمعلمين، كاختصاصيين في أي مجال، أبعد من ذلك؟
لا شك أن هذا الذكاء الاصطناعي سيكون قادراً في القريب العاجل على الخداع والتوجيه، ولا شك أنه سيضعف القدرات الإنسانية العقلية ليحيلنا كائنات كسولة، ثم كائنات غبية، ثم إلى مصير مجهول. في ظل كل ذلك، «نعافر» نحن الأساتذة والمعلمين للوصول للعقول البضة، لتشكيل مهارة، لإحياء شغف، للمحافظة على هذا المتبقي من إنسانيتنا، قدرتنا على التفكير وتجليات هذه القدرة من قراءة وكتابة وصناعة فنون.
في مجال العلوم الإنسانية الذي أدرّس فيه، أصبحت عملية التدريس شاقة وغير واضحة المعالم ولا الأهداف. فحين تكون «لقمة عيشنا» في القراءة والكتابة والتحليل، وحين يتفادى الطلبة كل ذلك إحالة للمطلوب للذكاء الاصطناعي، يصبح الوضع سيريالي حقيقة، تصبح الصفوف الدراسية خافتة والأوراق المكتوبة متشابهة آلية، تتضاءل القراءة إلى عملية سمعية لصوت آلي وتنتفي الكتابة إلى مادة معدِّة منقولة متشابهة جافة مقدمة من آلة عبر آلة إلى آلة، في زمن فقدنا فيه جميعنا الشغف وأصبحنا موصلات، من آلة إلى آلة.
في مجال تخصص مثل تخصص الأدب أو أي من تخصصات العلوم الإنسانية، أصبح التدريس حول العالم كله، لا يختلف في ذلك شرق عن غرب، جهاد نفس، أو لربما تحول إلى ما يقترب من مشهد الشرطي والحرامي، حيث تنصب كل قوانا التدريسية الآن على محاولة اكتشاف السرقات الأدبية التي تجد لها ألف منفذ، حيث إن لم تجد لها منفذاً مادياً، يجتهد الطلبة في إنفاذها معنوياً، في حفظ إجابات الذكاء الاصطناعي ثم ترتيلها نصاً على الورق. الهدف كله هو المرور من منفذ الجامعة إلى الوظيفة والتي في الغالب سيقوم بمهامها ذكاء اصطناعي آخر، وكأننا آلات صلدة نمر عبر منافذ صنعها لنا هذا الذكاء الاصطناعي، وكأننا قطع حطب صغيرة تسكن بيوتاً متراصة، تسير على ذات الطريق وتنتهي إلى ذات الخاتمة. الشعار اليوم ينحصر في الوصول لأسرع وأعلى النتائج بأقل الجهود وبلا استخدام لأي مهارة، أي حياة هذه التي يفارقها الشغف والشجن والمجهود الذي يشحذ مهاراتنا ويدفعنا لتطويرها؟
ربما أكتب بحس امرأة فاتت شبابها، ربما سيقرأ أحدهم كلماتي بعد مئة سنة فيضحك على مخاوفي الساذجة مثلما فعلت أنا مع السابقين لألحقهم الآن بشكل محرج. كل ما أعرفه الآن، أنني في أزمة انتقالية، أنني أفتقد الشغف والحوار، أنني أشتاق الجهد المبذول في التعليم والتعلّم، أنني أتوق للعقل البشري، للروح، للضمير، للمشاعر، تلك التي اختبأت كلها خلف صوت بارد، محايد، مريب في ودوديته وترحيبه ومرحه الدائمين. أتوق لمزاج يتغير وضمير يتأثر وروح تتفاعل وتساؤلات كثيرة تؤدي إلى نزاعات روحية مريرة تتصفى، أو ربما تكبر، مع الزمن. أتوق لروح حية ما عاد لها وجود، روح ذابت في أخرى جليدية لا تتغير، لا تتأثر ولا تخطئ.
فاتني الزمن أو ربما تخلفت عنه، لا أدري. كل ما أعرفه أنني أصبحت الكليشيه الذي كنت أضحك منه وعليه. هم السابقون ونحن اللاحقون.
انخفاض إنتاج العسل في الأردن هذا العام
عشرات الآلاف أدوا صلاة الجمعة في الأقصى
بيت جن… مشهد جديد يكشف طبيعة الكيان المجرم
شويتسه تؤكد أهمية العمل الجماعي من أجل المتوسط
الأردن يدين توغّل القوات الإسرائيلية وقصفها بلدة بيت جن
اضطراب مبكر بالدوامة القطبية .. ما تأثيره على منطقتنا
تراجع استثمارات الشركات في بريطانيا
وزير الخارجية: الأردن ملتزم بدعم حقوق الشعب السوري
تقاضى مبالغ مالية مقابل ترخيص محلات .. والمحكمة تصدر قرارها
دليلكم للتعرف على سمك الناجل وكيفية تحضيره
فاقدون لوظائفهم في وزارة الصحة .. أسماء
تعيين وتجديد وإحالة للتقاعد بهيئة تنظيم الاتصالات .. أسماء
ما هي مكونات المارشميلو .. طريقة تحضيره في المنزل
أساتذة جامعيون يمتنعون عن معادلة شهاداتهم الجامعيّة
توجيه مهم من التربية لمديري المدارس
قرار حكومي لتنظيم عمليَّة التنبُّؤات الجويَّة
وفد سوري رفيع يزور عمّان لإعلان التوأمة التجارية
الأعرج رئيساً تنفيذياً لشركة كهرباء المملكة

