احتشاد الرموز وخواء الجديد

احتشاد الرموز وخواء الجديد

28-11-2025 02:18 PM

كان ينبغي لقمّة مجموعة العشرين G-20، التي انعقدت مؤخراً في جوهانسبرغ، جنوب أفريقيا؛ أن ترتدي خصوصية أولى رمزية، تمثلت في أنها تُعقد للمرة الأولى في القارة الأفريقية، وعلى أرض لا تفتقر إلى دلالات شتى تخصّ انتصار شعب أفريقي على أحد أعتى أنظمة التمييز العنصري، الأبارتيد دون سواه. خصوصياتها الأخرى لا تبدأ من السياسة في ضوء انقسام العالم إلى جنوب معمّم معولَم وشمال أشدّ تعميماً وعولمة، ولا تنتهي عند معضلات ديون العالم من حيث الإعفاء أو الجدولة على أقلّ تقدير، ومآزق المناخ وارتفاع درجات الحرارة، وتركيز غازات الدفيئة، وزيادة الجفاف، وفقدان التنوع البيولوجي، ونقص الغذاء، والمخاطر الصحية المتزايدة الناجمة عن هذه وسواها من ظواهر.
ولم يكن ينقص سوى موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي استبق القمة بالشكوى من أحداث عنف تستهدف «البيض» في جنوب أفريقيا، ثم أكمل جولة العداء بمقاطعتها، وإهانة البلد عن طريق تكليف دبلوماسي بمستوى قائم بالأعمال لتمثيل الولايات المتحدة، مما دفع رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا إلى الامتناع عن أداء مراسم تسليم رئاسة الدورة المقبلة إلى واشنطن. وإذا جاز الافتراض بأنّ هذا السلوك ترامبيّ قياسي بصدد إهانة الشعوب غير الأمريكية عموماً، وشعوب الجنوب في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية خصوصاً؛ فإنّ هذا الخيار الأمريكي، الاستعلائي والعدائي، يحمل مغزى استفزازياً إضافياً حين يتصل الأمر بهذا الطراز من القمم تحديداً.
وأما في الخلفية الأعرض فقد كانت حرب التعريفات الجمركية التي يواصل ترامب شنّها ضدّ العالم بأسره بمثابة حاضنة للتوتير والتوتر، تستكمل حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، والاجتياح الروسي في أوكرانيا، والاستقطابات بين الشمال المعمم ومجموعة الـ»بريكس» على سبيل المثال. وكان لافتاً أنّ التشاؤم حول مستقبل المجموعة، والذي تقف خلفه اعتبارات عديدة، لم يتكئ على عامل تفاؤل آخر سوى انعقاد قمة 2027 تحت رئاسة المملكة المتحدة، و2028 برئاسة كورية جنوبية؛ في أعقاب قمة 2026 الأمريكية المقبلة، التي تبدو تباشيرها فاشلة وكارثية سلفاً.
وثمة إجماع، على نطاق واسع في الواقع، بأن قمم مجموعة العشرين تسير من تعثر إلى فشل إلى استعصاء، وباتت بالتالي عاجزة أكثر فأكثر عن تدبّر تفاهمات كافية حول التعاون الدولي وتوافقات الحدود الدنيا الجيو سياسية والاقتصادية والإنمائية. وهذه حال تتفاقم في ضوء حقيقة كبرى مفادها أنّ المجموعة تمثل نحو 85٪ من الناتج العالمي، و75٪ من التجارة الدولية. وفي المقابل، أي ذلك العامل الذي لا يمكن إغفاله على أية حال، انتهت مبادرة «الإطار المشترك» لتخفيف أعباء الديون إلى نتائج متواضعة تماماً، إذا لم تكن هزيلة؛ فلم تشمل سوى عدد قليل محدود من الدول، مقابل توسّع هوّة الديون إلى 50 دولة، وفي الآن ذاته تركزت الثروة في الدول الغنية داخل المجموعة، وارتفعت نسبة الإجراءات الحمائية خمسة أضعاف منذ سنة 2020.

ولم يكن بغير حوافز جدية وملحّة أنّ 165 منظمة مجتمع مدني حثت رئيس القمة على تأكيد إصلاحات جوهرية وجذرية قبل تسليم الرئاسة إلى الولايات المتحدة؛ كما طالبت صندوق النقد الدولي ببيع احتياطياته من الذهب لإنشاء صندوق يتولى تخفيف الديون، ودعم إنشاء «ناد للمقترضين» يسهل التعاون مع الدول منخفضة المداخيل. وقد يُساجل، عن صواب، أنّ حكومة جنوب أفريقيا نجحت بدرجة متقدمة في إلزام دول المجموعة بإجراءات علاجية، تضمنتها 30 صفحة في «إعلان القادة»، لكنها تظل إيجابية على الورق فقط، أو حتى إشعار آخر قد يطول. غير أنّ الحصيلة لم تغادر المنطق الأساسي الذي حكم ويواصل حكم قمم الـ20.
ومنذ سنة 1999، حين انطلقت الفكرة من اجتماعات لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية، للدول ذات «الاقتصادات المتقدمة والناشئة» كما يقول التوصيف؛ عقدت مجموعة العشرين قممها غير بعيد عن أهداف القمة الأولى التي كانت بمثابة ردّ فعل، لتوجيه نداء استغاثة، في أعقاب أزمة عالمية عصفت بالأسواق والبورصات والمصارف. أمّا الإنجاز، في المقابل، فإنه لم يكن مخيباً للآمال، حتى المتواضعة المتدنية منها، فحسب؛ بل كان أشبه بمناسبة لإعلان الانتقال من عجز مريع، إلى فشل ذريع!
واضح، في المقابل، أنّ الولايات المتحدة سارت بين مدّ وجزر في سياسات الحماية المتغطرسة، بين ما فرضته على قمّة المجموعة في واشنطن، تشرين الثاني (نوفمبر) 2008؛ ثمّ قمّة لندن، في نيسان (أبريل) 2009، وصولاً اليوم إلى تعريفات ترامب الجمركية. الأسباب عديدة، على رأسها تناقض المصالح بين النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وأوروبا، وتعزّز مواقع الدول ذات الاقتصادات الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية، والصين بصفة خاصة. وبعض أبرز المفارقات، في هذا الصدد، أن تكون الصين، ذات النظام السياسي الشيوعي، رسمياً على الأقلّ، والاقتصاد القائم على مركزية حكومية؛ بين الأكثر حرصاً على انتشال الاقتصاد الأمريكي من مآزقه، لا لشيء إلا لأنّ الدولار هو العملة التي تغطّي صادرات صينية بالمليارات!
مفارقة أخرى يمكن للمرء أن يلمسها إذا قلّب صفحات الـ»وول ستريت جورنال»، فقرأ الدروس السلوكية التي تتوجه بها الصحيفة إلى رجالات البيت الأبيض، خاصة أولئك الذين يتولون الملفات المالية والتجارية: 1) لسنا في عقود الهيمنة، وتأزّم الاقتصادات الآسيوية، حين كانت الخزانة الأمريكية تسيّر اقتصاد الكون من خلال صندوق النقد الدولي؛ و2) لا مناص، استطراداً، من مراعاة مصالح اقتصادات الصين والهند والبرازيل، على حساب الحلفاء في أوروبا؛ و3) من الضروري منح هذه الدول قوّة تصويتية أعلى في اجتماعات صندوق النقد الدولي، على حساب حلفاء مثل فرنسا وألمانيا، وهذه المرّة عن سابق قصد، وبما يخدم مصالح الولايات المتحدة…
ومنذ قرابة أربعة عقود، حين دعا الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان إلى أوّل قمّة تجمع الدول المصنّعة الأغنى، كان الهدف أقلّ طموحاً بكثير من سلسلة البنود المتشعبة التي باتت تُوضع على جدول أعمال زعماء العالم المصنّع؛ الآن وقد أراحوا أنفسهم من نخبوية قمم الثماني، فوسّعوا نطاقها العددي والجغرافي إلى العشرين. وفي واقع الأمر بات التشعّب ذاته هو الذي يحوّل هذه القمم إلى جعجعة بلا طحن، وإلى حوار بلا طائل داخل قلاع محصّنة، حيث الآذان صمّاء تماماً عمّا يدور في الشارع من صخب وعنف وتظاهرات واحتجاجات.
أخلاقيات هذه القمم لم تتغيّر جوهرياً، أو هي لم تتغيّر إلا بما يناسب واقع الحال في الدول الصناعية ذاتها، وبين بعضها البعض؛ وليس بما يناسب مستجدات العالم الشاسع الواسع، الفقير والمدين والمتخلّف والمريض والجائع. والأمريكي إريك د. ك. ميلبي، الذي عمل في مكتب الأمن القومي الأمريكي وشارك في التحضير لقمم الدول الصناعية بين أعوام 1987 و1993، يقرّ بأنّ هذه القمم في حاجة إلى «نفضة» شاملة كاملة، من نوع يجعلها أقلّ كلفة وتكلّفاً وأكثر فائدة وجدوى.
وقد يقول قائل: ولكن، ثمة جدول أعمال حافلا بالبنود في كلّ مرّة، يشمل آمال النموّ، وهموم الديون والفقر والأوبئة («إيبولا» قبل «كوفيد»، واللائحة ليست قصيرة) وبروتوكول كيوتو حول المناخ، وملفات السياسة المختلفة (من أوكرانيا، إلى حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، فالبرنامج النووي الإيراني)… كلّ هذا وارد، بالطبع، ولكن ألم يكن الستار يُسدل على نتائج عجفاء هزيلة قاصرة، في ختام القمم كلها بلا استثناء؟
وبالتالي، كيف لقمة جوهانسبرغ ألا تتصف بالخواء، أياً كان احتشادها برموز ودلالات؟

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد