مدينة الأنصاف السُّفلى…

مدينة الأنصاف السُّفلى…

26-11-2025 10:52 PM

“هل يمكن أن نشفى من جرح عميق بكتابة رواية؟” هذا ما تحاول أن توصله لنا الروائية والأكاديمية الكبيرة آمنة الرميلي التي صرحت في الدورة 39، من معرض تونس الدولي للكتاب (من 25 أبريل إلى 4 مايو 2025) أنها كتبت رواية “مدينة الأنصاف السفلى” (دار محمد علي 2025) لتشفى من الآثار النفسية القاسية التي تركتها فيها جريمة قتل رفقة الشارني من طرف زوجها ظلما. لهذا بلغ الجانب المظلم والانتقامي أوجه في الرواية بشكل غير مسبوق في تجربتها الفنية الكبيرة.
ليست رواية “مدينة الأنصاف السفلى” تجربة آمنة الرميلي الأولى. فقد ظل موضوع المرأة هو مركز رواياتها التي توجت بالعديد من التكريمات والجوائز: منها “الباقي” و”توجان” و”شط الأرواح” و”الجيعان (قصص)” وقد فازت هذه النصوص بجوائز كثيرة منها جائزة الكومار الذهبي للرواية العربية سنة 2016 و “شط الأرواح” التي تحصلت سنة 2021 على الجائزة الوطنية زبيدة بشير لأفضل الكتابات النسائية ضمن صنف الرواية. يضاف إلى ذلك بحثها الأكاديمي “المرأة في فكر الطاهر الحداد” كما كتبت نصوصا لصالح الأوبرا مع سلمى بكار.
التقيت بآمنة في معرض أبو ظبي للكتاب، أثناء تقديم تجربتها. أهدتني بكرمها المعتاد، روايتها الأخيرة “مدينة الأنصاف السفلى” التي قرأتها بسعادة كبيرة لأن أمينة لا تكتب بسهولة، فكرها الحاد وموقفها النضالي يخترق حياتها وجهودها البحثية المختلفة. ليس صدفة أن تختار الاشتغال على “المرأة في فكر الطاهر حداد”. فهي أستاذة النقد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة. خيارات آمنة الثقافية الحداثية والتحررية جزء من قناعاتها العميقة.
منذ البداية تظهر جليا خيارات الكاتبة الاستراتيجية: “لا توقظوا الوحش” وحش الذكورة. الذكورة ليست الهوية الجنسية فقط، ولكن بوصفها نمطا تفكيريا. الكثير من النساء تُعِدن إنتاج هذا الفكر الذي يقر بنقص المرأة أمام الرجل، ويزيد من وهم القوة لدى الرجل والجهل. أهدت آمنة روايتها لرفقة الشارني، ابنة الكاف، التي قتلها زوجها في سنة 2021 عن عمر لم يتخط عتبة 26 سنة. وعلى الرغم من شكاويها المتلاحقة لدى المؤسسة الأمنية والاجتماعية، إلا أنه كان يخرج بلا متابعات قانونية، وكأن العنف الجسدي هو شيء لا يثير أي شبهة تجاه هذا الوحش. إلى يوم ما يسمى Le passage à l’acte، فقتلها بدم بارد. القاتل كان يمارس ذكورة يشرعها المجتمع المختل في علاقاته التي تجد مبرراتها في الدين بالفهم الضيف وفي العادات الاجتماعية التي تتعامل مع المرأة كسقط متاع. آمنة الرميلي تعيد بروايتها هذه النظر في المجتمع التونسي والعربي، وليس فقط في الأفراد وحدهم، بل وفي النظم التربوية المتخلفة التي لم تتغير، بل على العكس من ذلك، تزداد انهيارا. عندما ينتفي القانون يصبح العنف مقابل العنف هو الحل الأوحد، فلا خيار للدفاع عن النفس إلا بوسائل الجلاد نفسها. ولأن المأساة تتخطى عتبات الفردية، فقد عممت الإهداء ليمس النساء كلهن: إلى أرواح كل النساء اللاتي زُهقت حيواتهن نتيجة للعنف ولما يطلق عليه “ظاهرة تقتيل النساء”.
خرجت آمنة من الدرس الاجتماعي المباشر والاعتيادي وراحت تنحت سرديتها داخل الأسطورة. فذهبت نحو مساحات أوسع، مساحات التخييل التي تكاد تكون سينمائية باتساع أفقها وتشكل شخصياتها. نحن أمام مجتمع آخر، يشبه الحقيقة ولكنه يتخطاها نحو الأسطرة. نحو فضاء تستيقظ فيه الوحوش البشرية النسائية التي لم تعد قادرة على الصمت في لحظة انتفاء أي سلطة قانونية رادعة. نساء طلقن القيم التي لم تعد تجدي نفعا والتجأن إلى العنف نتيجة مراكمة المظالم المتتالية التي لا تكتفي بالتعذيب، ولكنها تذهب نحو أقاصي أمراضها: القتل. كان يفترض أن يمتن ولكنهن نجون من الموت “الناجيات” فتحولن من وضع الضحية إلى وضع الجلاد المنتقم. الهدف هو إذاقة كل ألوان التعذيب للظالمين وحتى الظالمات، لأن الذكورة “ثقافة” كما سبق أن ذكرت، وممارسة وليست قصرا على الرجال. يحاربن العنف بنفس أدوات الذكورة القاتلة. إن الدخول في حلقة “مدينة الأنصاف السفلى” ليس متاحا لأية امرأة. لابد من الاستجابة لسلسلة من الشروط. أن يكنَّ حاملات لتشوهات عميقة. من لم تكن مشوهة لا حق لها في الحلقة. التشوه هو الدمغة والعلامة الجسدية والنفسية التي كلما رأيناها استعدنا لحظة الألم الأولى والظلم والقسوة فيصبح الانتقام ردة فعل حقيقية واجبة. كما يطلب منهن تكنّ حليقات الرأس، ويتخلصن من جمالية الشعر الذي يشكل حسن المرأة وأنوثتها. التخلص من الضفائر هو التخلص من سلاسل العبودية. ما جدوى أنوثة لا مكان لها وسط ذكورة تملكية وحتى إجرامية. كسرت آمنة معايير الجمال التي أصبحت قيدا ضافيا واختارت مسلكا أكثر صعوبة.
تتضح جليا، من خلال الرواية، أطروحة آمنة الرميلي. هذه المجتمعات العربية عموما تحتاج إلى ثورة حقيقية تنفض كل شيء لأن ما فيها فاسد من حيث الجوهر، واختراع نظام جديد يأخذ بعين الاعتبار قيمة الإنسان كإنسان أولا. النسوية نفسها من حيث الأفكار لا يمكنها أن تظل في نفس الدائرة التي لم تعد تجدي نفعا. النسوية الصارمة التي لا تتاجر بدمها وآلامها. النسويات السابقة كن متواطئات مع الظلم. تجب مواجهة المنظومة “الأبوية السلطوية” بكل مقوماتها السياسية والاجتماعية والثقافية، لأنها هي التي تحرم النساء من حقوقهن وتعطيهن مكانة أقل من الرجال داخل المجتمعات العربية اليوم.
الرواية هي محاولة لاكتشاف الأعماق المريضة التي لا ترى من حل إلا في الانتقام ضد النفس وضد الآخر حيث تمحي الحدود بين الجلاد والضحية، كلاهما جلاد وكلاهما ضحية. الظلم هو المحدد للتحولات الداخلية للإفراد والمرأة تحديدا. وإلا ما الذي يجعل امرأة حنونة ودافئة، قاتلة تستلذ بالتمزيق ونزع الأظافر وخلع الجلد عن الجسد حتى يبرز العظم. هناك لذة ضامرة تتبدى وراء كل فعل انتقامي. لقد تغير كل شيء في المرأة حتى في جانبها الفيزيولوجي حيث يصبح كل شيء باردا بما في ذلك الموت.
شخصيات الرواية النسائية لا تشبهن ما تعودنا على قراءته ورؤيته. نساء ممتلئات بميراث ثقيل وجراحات تنزف إلى اليوم. الحقد هو المخزن الذي لا ينضب عبر القرون المتتالية. في “مدينة الأنصاف السفلى” ينهض الحقد والذاكرة وتاريخ الآلام كقوة بلا حسيب ولا رقيب، مخفية وراءها أي انوثة ممكنة. خضراء لا تُسلّم بحقها الانتقامي، تستدرجه لتملكه وتستعمله. حتى عفيفة لا تخرج من هذه الدائرة، فقد انتقمت من نفسها قبل أن تنتقم من ذكرها البائس. أحرقت فرجها وما يحيط به، لتمنع زوجها من متعة جنس كان بالنسبة لها عذابا مستديما “فتحت ساقيها وصبت قارورة الكبريت تحت سرتها وأشعلت النار في نصفها الأسفل حتى لا يستبيحها ذكرها مرة أخرى ” (ص 228). وللناجيات حقهن في الانتقام بالاشتراك في حفل ختان جماعي لأربعة مغتصبين، بالقطع والاقتطاع.
إن رواية “مدينة الأنصاف السفلى” تخترق الرموز الكثيرة التي تحتاج إلى توقفات تتجاوز هذا العرض، كان من نتيجتها إنشاء سردية الدفاع عن المرأة بالمرأة نفسها وتوجيه الأسلحة نفسها نحو ذكورة تنام على فراغ، في أعماق كل واحد فينا. منبع قوة الذكورة هو عجز المرأة في الدفاع عن نفسها. استنجدت آمنة بالأسطورة للتوغل في عمق تاريخ المظالم، وهذا وحده يستحق مقاربة فريدة.


(القدس العربي)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد