نسبة البطالة: رقم سوف ينخفض عندما يغفو الإحصائيّ

نسبة البطالة: رقم سوف ينخفض عندما يغفو الإحصائيّ

26-11-2025 11:21 PM

في أزمنةٍ يتشابك فيها الأمَلُ مع الحساب، يتحوّلُ التراجعُ في سوق العمل من مسألةٍ تقنية إلى اعترافٍ أخلاقيّ ووطنيّ، إنّ نسبة البطالة في الأردن التي سجّلها تقرير دائرة الإحصاءات 21.4% عام 2024 ليست رقماً جافّاً؛ إنها مرآةٌ تلمعُ بوجوه العاطلين، وتُشيرُ إلى ثغراتٍ عميقة في المنظومة التي يفترض أن تُنتِج فرصاً لا أعذاراً، وما ينعكسُ أكثرَ وجهاً للعيان هو مأزقُ الشباب: معدلات بطالة تقارب 41–46% شبابية بحسب التقديرات الدولية والتحليلية، رقمٌ يصرخُ بأن نصف جيل الشباب أو قرابته يُسحب من طابور الإنتاج إلى حالة الانتظار، هذا الانقسام بين خطابٍ قياديٍّ يدعو للشباب، وواقعٍ مؤسساتيٍّ يعجز عن تحويل الدعوات إلى وظائفٍ حقيقية، هو خيبةُ حكومات متتالية للآمال وللتوجيهات الملكية التي كرّست الشبابَ ليكونوا أولويةً وطنية.
فإذا أردنا أن ننتقل من عتابٍ بليغ إلى توصيفٍ عمليّ، فعلينا أن ننظر إلى من نجح حولنا من العالم، لأنّ التجارب الناجحة ليست أساطير، بل ممارساتٌ يمكن استلهامها وتكييفها وفق ظروفنا، فقد حوّلت سنغافورة ثقافة التعليم مدى الحياة إلى سياسةٍ وطنيةٍ متكاملة تمنح الأفراد حسابات للتعليم المستمر، وحوافز للشركات للمشاركة في تأهيل الموارد البشرية، وربط برامج التمويل والتدريب بمتطلبات السوق الفعلية، فكانت النتيجة: قدرة أعلى على تكييف المهارات مع تحول القطاعات، وانخفاض نسب البطالة بين الحاصلين على برامج المهارات، هذه المبادرة تُعلّمنا أن الاستثمار في رأس المال البشري لا يُقاس فقط بالإنفاق، بل باستمرارٍ منظّمٍ في التعلّم وإشراك القطاع الخاص كـشريكٍ فاعل، اما التجربة الألمانية فمنذ عقود أصبحت نموذجاً لتقليل بطالة الشباب عبر نظام يجمع بين المدرسة ومكان العمل: تدريب عملي في الشركات، ومناهج نظرية في المؤسسات التعليمية، مع إشرافٍ تنظيميٍّ صارم يضمن الجودة والانتقال السلس إلى سوق العمل، وبذلك اضحى الدرس هنا واضحا وناصعا: عندما تُنْمَى المهارات العملية مُسبقاً داخل سوق العمل نفسه، تقلّ معدلات البطالة المزمنة ويزداد التوافق بين العرض والطلب على المهارات، ولنا كذلك من كوريا تجربة جلية عندما طرحت حزمةً من السياسات الفعالة للربط بين الباحثين عن عمل وسوق العمل، مع تركيزٍ على برامج التوظيف المؤقت والمدارس المهنية «المايستر» التي تجهّز حرفيين ومهنيين مطلوبين، ونصل أخيرا الى التحليل الأوكسفوردي الذي أوضح أن الاستثمار في سياسات سوق العمل النشطة وزيادة توجيه التدريب نحو الوظائف الفعلية كان له أثر ملموس في إدماج الشباب، اما العبرة والدرس المستفاد: فأعتقد لا يكفي إنشاء برامج توظيفٍ عابرة؛ بل مطلوب تنوّعٌ في أدوات السياسة، من التوجيه إلى التدريب إلى الحوافز المشروطة.
وإقليميا لدينا تجارب ودروس مفيدة، تجاربٌ في تمكين المرأة وريادة الأعمال: فالدول التي دمجت سياسات تمكين المرأة (حوافز لدمج النساء في سوق العمل، خدمات رعاية، مرونة في ساعات العمل) سجلت ارتفاعاً ملحوظاً في مشاركة النساء، ما يوسّع سوق العمل ويخفّض الضغوط على البطالة العامة، كما أن دعم ريادة الأعمال والتعليم التكنولوجي في دولٍ إقليميةٍ، أنشأ مصدراً مستداماً لفرص عمل نوعية، فهذه التجارب تذكّرنا بضرورة استهداف السياسات لشرائحٍ محددة (نساء، شباب بلا خبرة، خريجو تخصصات محددة)، فما الذي نطالب به، وبأيّة نبرةٍ من العتاب؟ نعم، ليس كاقتراحٍ مُهذبٍ فحسب، بل كنداءٍ ملحٍّ يفرضه التاريخ والاقتصاد والأمانة امام الله سبحانه ان اقترح على حكومتنا الموقرة:
أولا. تبنّي إطارٍ وطنيٍّ للمهارات مدى الحياة على غرار حسابات تمويل فردية للتدريب، وحوافز ضريبية للشركات التي توفر تدريباً عملياً، وبرامج تكميلية لربط التدريب بالوظائف المتاحة، فهذه سياسةٌ لا تُؤخّر آمال الشباب بل تُزودهم بخبرات ومهارات عملية.
ثانيا. توسيع وإصلاح التدريب المهني الثنائي عبر شراكاتٍ صناعية-تعليمية تُلزم الشركات بتوفير حصص تدريبية، وتمنح المتدربين عقوداً تُؤمّن الانتقال إلى العمل مباشرة، عندها سنقلّد ألمانيا ليس بشكلٍ حرفيّ بل بمرونةٍ تناسب بنية القطاع الخاص الأردني وحجم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
ثالثا. تعزيز سياسات سوق عمل نشطة: مراكز توظيف فعّالة، منح توظيف مشروطة، وبرامج توظيف تقنّي تُركّز على التوظيف السريع في قطاعات النمو (التكنولوجيا، الطاقة النظيفة، الخدمات الصحية). هذا ما نلمسه في دراسات كوريا كخلاصة فعالة.
رابعا. برامجٌ خاصةٌ لاحتضان روّاد الأعمال الشباب وتقديم حاضناتٍ وتمويلًا مُيسّرًا وارتباطاً بسلاسل القيمة الوطنية والإقليمية، لأنّ كثيراً من الدول نجحت في خلق وظائف من خلال تحديثاتٍ في الإطار المؤسسي لدعم المشاريع الصغيرة. (الدراسات المحلية تشير إلى أن قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هو المحرّك الأهمّ للتشغيل الحالي في الأردن).
خامسا وأخيراً: آلية شفافة لرصد تنفيذ التوجيهات الملكية. مؤشرات أداء سنوية، نشر بيانات التنفيذ، ومساءلة فعلية للمسؤولين، لا نريد بياناتٍ تُنشر لتطمين الضمير فحسب؛ بل نريد خططاً وموازناتٍ ومنتَجاً يقاس بالأشخاص الذين دخلوا سوق العمل بِكرامة، وحتى لا يبقى العتاب مجرد موسيقى كلامية، فإنني أوجّه هذا النداء الحازم إلى كل الجهات المسؤولة واقول: إنّ التوجيهات الملكية لم تكن يوما خطاباً رمزياً بل خارطةً للعمل، فإن بقيت مؤسساتُنا تمارس البطء الإداري، أو تختبئ خلف أعذار التمويل، أو تُقدّم برامج غير منسجمة مع حاجات السوق، فستنقضي السنوات، والجيلُ يتكرر في أرقام الإحباط، أما إن اتخذت الحكومة قرارها بالتعلّم من التجارب الناجحة (تكييف سياسات سنغافورية، تبنّي مبادئ التدريب المزدوج الألماني، وتحديث أدوات سوق العمل الكوريه)، عندها سنرى تحولاً حقيقياً بعونه تعالى(فمن بطالةٍ متجذرةٍ إلى فرصٍ تصنعها السياسات، ومن عتابٍ إلى إنجازٍ يُشار إليه)، فهذه ليست خارطة أحلامٍ؛ إنها خارطة عمل يستند بعضها إلى أرقامٍ رسمية (21.4% بطالة، نحو 41–46% بطالة شبابية، 100,000–120,000 مدخل سنويّ للسوق) ومشاهداتٍ تجريبية لبرامجٍ أثبتت فاعليتها، والفرق بين الشعارات والنتائج هو التنفيذ، فهل سنُعيد الأمانة؟ أم نترك الأرقام تتكاثرَ كأسماءٍ في سجلات العجز وقيود البطالة...؟!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد