ورونا شهامتكم

mainThumb

21-11-2025 02:26 AM

من على هذه الكرة الأرضية، كان يعتقد أن الأسيرات في سجون الاحتلال الصهيوني آمنات على أرواحهن وأجسادهن؟ من كان تفوته الاحتمالية العارمة لتعذيبهن واغتصابهن وإهانة أرواحهن وأجسادهن؟ إلا أن العالم لا يتجاوب مع المتعارف عليه صمتاً، لا يتفاعل مع الحقيقة الخرساء، كان لا بد للحقيقة أن تُسرد بتفاصيلها المفجعة حتى يتجاوب العالم معها ويتحرك تجاهها، وهكذا فعلت الأسيرة المحررة الشجاعة ن. أ. فقد تحدثت هذه السيدة العظيمة عن تعرضها للاعتداءات الجنسية المتوالية بعد طرحها على مسطح حديدي بارد وتقييد يديها وقدميها وتركها عارية لأيام عدة، مع سماعها صوت طقطقة الكاميرات وهي تلتقط صوراً لها تم تهديدها بها لاحقاً؛ بأن سيقوم المغتصبون القذرون بنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي. ماذا فعلت هذه المرأة خارقة الشجاعة؟ خرجت لتحدث العالم تفصيلاً بحوادث تعذيبها وانتهاك روحها وجسدها، وكيف رد العالم العربي عليها؟ لربما هنا تكمن بعض الكارثة.
يقول حلمي الأعرج، مدير مركز الدفاع عن الحريات: «الثقافة الشرقية تقيد الأسيرات والأسرى من الحديث عما تعرضوا له في غرف التحقيق وأقبية الظلام على أيدي المحققين والسجانين… بشكل عام، تؤدي الثقافة السائدة دوراً محورياً في الحد من كشف هذه الفظائع». الحقيقة أن الثقافة الذكورية السائدة تفعل أكثر من ذلك، فهي لا تكتفي بإسكات الطرف المُنتَهك وإجباره على ترك الجريمة بأوجاعها وتبعاتها الفظيعة في الظلام، بل تزيد على هذا الطرف بمشاعر الخزي والعار، تضغط عليه بالشعور بالذنب والإحساس بالتلوث، وكأن المعاناة دليل إدانة، وكأن الاعتداء دليل قبول المعتدى عليه ومشاركته في الجريمة.
فكيف يكون الحال والمعتدى عليه امرأة، يحمل جسدها كل أحمال الشرف والسمعة، يتهاوى أسفل كل أثقال الخزي والعار فقط لكونه جسداً أنثوياً يحمل في طياته تاريخ نزاهة الذكور ونقاء سيرتهم مهما كان من أفعالهم هم الشخصية؟ وهكذا انقسمت ردود الفعل تجاه شهادة الأسيرة المحررة الشجاعة، بين ممتنين لها على هكذا سردية تبين فحش المحتل وبشاعته، وبين رافضين لصراحة كهذه تفصّل معاناة جسد أنثوي ينبغي له ومعاناته أن يبقيا طي الكتمان، وبين مرتبكين من صراحتها وشجاعتها اللتين قلما تظهران مصاحبتين لامرأة شرقية، حيت يتعلق الأمر بانتهاك جسدها. هؤلاء المرتبكون لربما هم الأسوأ بتعاطفهم «اللين» مع الضحية، وفي الوقت ذاته بتفضيلهم لمداراة التفاصيل وتركها في قلب صاحبتها وذكراها، وكأن في تفصيل هذه المرأة الشجاعة لجريمة الاعتداء على جسدها تفصيلاً لكل جسد أنثوي عربي، وإحالة وإدانة لكل مفاهيم الشرف والسمعة الهلاميين اللذين يلاحقان هذا الجسد الأنثوي، وصمة عار على جبين كل رجل عربي ينكشف جسد «مملوكته» ولو في سياق الدفاع عنه. الجسد الأنثوي يبقى في الظلام، ظالماً ومظلوماً في الظلام، منصوراً ومنتهكاً في الظلام، محرراً ومقهوراً في الظلام. الجسد الأنثوي ليس موضوع حوار ولو دفاعاً عنه وحماية له، فالأولى أن ينتهك ألف مرة من أن يتم الحديث عنه علناً ولو مرة. الجسد الأنثوي غير مرغوب فيه موضوعاً سوى في مخادع المالكين، الذين قد يكونون أول المُنتهكين أصلاً.
ونعم بكل تأكيد، تفصيل هذه الأسيرة الشجاعة لما حدث لها هو تفصيل لأجسادنا الأنثوية جميعاً. ونعم، ما حدث هو وصمة على كل جبين إنساني لا على جبين الرجل الشرقي فقط. ونعم، انتهاكه هو انتهاك لكل مفاهيم السمعة والشرف، السمعة والشرف الحقيقيين لا الهلاميين، سمعة الإنسان كإنسان له ضمير وشرفه كإنسان يقف مع الحق ولا يخافه ولا يشعر بالعار منه. ونعم، لكل رجل عربي استشعر أنه تعرى وانتُهك حين سمع توصيف الأسيرة، حين تذكر أجساد «نسائه» خوفاً وهلعاً على «شرفها وسمعتها»، انتهاك جسد هذه الفلسطينية الشجاعة هو انتهاك لكل جسد عربي، لنا كلنا رجالاً ونساء. كلنا هذه المرأة الشجاعة، وتحديداً، وتقصداً لتعذيب العقلية العربية الذكورية، كلنا كنساء هذه المرأة الشجاعة، كلنا انتُهكنا حين انتُهكت، كلنا اغتُصبنا حين اغتُصبت، كلنا تعرينا حين تعرت، وكلنا تصورنا و»انفضحنا» حين تصورت وتهددت.
الحقيقة أن الفضيحة لم تطل سوى الاحتلال الصهيوني الفاحش الذي لم يمر على البشرية مثيله، لم تطل سوى العقلية الذكورية المريضة التي لم تر العذاب والقتل المتعمد للروح قبل الجسد والإهانة المتعمدة لأمة بأكملها، إنما كل ما رأت وخشيت عليه هي سمعة ملوثة أصلاً بقبول الاحتلال وشرف منتهك مسبقاً بالسكوت عنه، لم تطل سوى الصامتين المرتبكين المترددين، الذين يقرأون شهادة هذه المرأة الشجاعة ليطووها سريعاً في فيديو لاحق وخبر لاحق، تجنباً لمواجهة ستفضحهم هم بضعفهم ونذالة رد فعلهم.
كلنا نحن النساء، هذه المرأة الفلسطينية الشجاعة، كلنا انتهكنا وتعذبنا و»انفضحنا»، كلنا نقف معها في إعلانها الشجاع الرائع، كلنا كنا معها في غرفة التعذيب، كلنا تم تصويرنا وتهديدنا. أليس هذا ما يرعبكم؟ أجساد نسائكم يمكن أن تكون ضمنياً في المخيلة؟ نحن نعلنها من هنا، كل أجساد النساء موجودة علناً في هذه المصيبة، متألمة، منتهكة، ومتكافلة. ورونا شهامتكم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد