كسر الرتب زلزل الرواية الإسرائيلية عن هولوكوست غزة

mainThumb

21-11-2025 02:27 AM

في خضمّ آلة الدعاية الإعلامية المفلترة والتغييب المتعمد للصوت الفلسطيني، تبرز الأفلام الوثائقية كأداة قوية وضرورية لاختراق جدران الصمت والتعتيم وتجاوز دوامة الحدث اليومي للقبض على حقيقة حرب الإبادة التي ينفذها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، عبر تقديم شهادات مباشرة ومقاربات بصرية في سياق أعرض وأكثر تماسكاً من التقارير الاخبارية العابرة.
وبالطبع، فإن انتاج الوثائقيات عن مأساة غزة من الجانب الإسرائيلي ظل في أغلبيته الساحقة ترداداً وصدى للسردية الرسمية للحكومة الإسرائيلية، ما يفسر العاصفة التي أثارها الفيلم الوثائقي «كسر الرتب: داخل حرب إسرائيل» للمخرج (الإسرائيلي) بنجامين زاند، منذ عرضه هذا الأسبوع – على فضائية «آي تي في» البريطانية – لما يرسمه من صورة قاتمة من زاوية مغايرة لتلك السردية السائدة عن الهجوم الإجرامي الذي تشنه الدولة العبرية على قطاع غزة منذ أكثر من عامين بشهادات لجنود إسرائيليين – بعضهم باسمه الصريح وبعضهم بأسماء مستعارة – تكسر حاجز الكذب الرسمي، وتُجبر الجميع على التفكير ملياً في الثمن البشري الباهظ الذي يدفع ثمنه المدنيون الفلسطينيون بمباركة وتغطية الغرب، وصمت العرب.

حقول القتل المفتوح

يبدأ الفيلم بمقارنة صادمة بين مشهدين جويين لمدينة غزة: الأول يعود لعام 2023، يظهر فيه نسيج حضري مكتظ بالمباني الشاهقة والمساجد والشوارع المعبدة، والثاني النسيج ذاته في العام 2024، يظهر دماراً واسعاً، وهياكل مبانٍ محطمة، وأرضاً تحوّلت إلى قفار من الغبار والرّكام. هذه المقارنة البصرية المُبكرة هي المدخل إلى جوهر الشهادات التي يقدمها الجنود حول العمليات القتالية المستمرة – بشكل أو آخر – رداً على هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
الروايات الواردة في الوثائقي لا تقتصر على تكرار ما تم تناقله في وسائل الإعلام، بل تكشف عن ممارسات تثير القلق العميق حول انهيار شامل لقواعد الاشتباك العسكري وتفلت إطلاق النار العشوائي. يصف أحد الجنود، الذي يُدعى دانيال، وهو قائد وحدة دبابات، الوضع بأنه «حُرية إطلاق نار عارمة» حيث يمكن للجنود «إذا أرادوا أن يطلق النار دون قيود». وتكشف شهادته عن حادثة قام فيها ضابط بإطلاق قذيفة على مبنى مخصص للأغراض الإنسانية، متذرعاً برؤية سلاح مضاد للدبابات، ويُعقّب دانيال: «لا يمكن لأحد مجادلته، فكيف يمكنك آن تثبت أنه كان مخطئاً».

شهادات عن قتل المدنيين وقرارات الحياة والموت

إن الشهادات الأكثر إيلاماً وصدمة تتعلق بقتل المدنيين الفلسطينيين العُزّل. يصف جندي يُدعى إيلي كيف أصبحت قرارات الحياة والموت «تُحددها ضمائر الضباط على الأرض» وليس إجراءات فتح إطلاق النار. وأوضح أن تصنيف (العدو) أصبح تعسفياً بشكل مثير للقلق: «إذا ساروا بسرعة كبيرة، فهم مشبوهون. وإذا ساروا ببطء شديد، فهم مشبوهون».
في حادثة مروّعة، يروي «إيلي» كيف أن ضابطاً كبيراً أمر دبابة بهدم مبنى في منطقة مصنفة آمنة للمدنيين، بعد أن «قرر» أن رجلاً كان ينشر غسيله على السطح هو راصد عسكري، على الرغم من بعده بـ 600 متر وعدم حمله أي مناظير أو أسلحة. والنتيجة كانت «عدداً كبيراً من القتلى والجرحى».
ويضيف الجندي بأسى: «هذا النوع من الأمور كان يحدث كل أسبوع. وهذا في وحدتي فقط. وهناك العشرات من الوحدات على الأرض في أي لحظة».
تشير الأرقام المذكورة في الوثائقي إلى أن أكثر من 69 ألف فلسطيني قد قُتلوا منذ بداية الحرب، وتستشهد بتحليل يُقدّر أن 83% من القتلى كانوا من المدنيين، بناءً على بيانات استخباراتية إسرائيلية، وهو ما يمثل نسبة غير مسبوقة في الصراعات الحديثة. إن كل نقطة في هذه البيانات تتعلق بروح إنسان بريء أزهقت، وعائلة أبيدت، وحياة انتهت مجاناً على أيدي جيش من «السايكوباث» الذين التحقوا بالخدمة العسكرية لممارسة القتل.

«بروتوكول البعوضة»: استخدام الدروع البشرية

يكشف الفيلم أيضاً عن الاستخدام الروتيني للمدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية، وهي ممارسة تُعرف باسم «بروتوكول البعوضة» وهو ما يتناقض مع الإنكار الرسمي الممنهج للجيش الإسرائيلي الذي يصرّ على التزامه بالقانون الدولي ويُحظر هذه الممارسة.
يوضح «دانيال» البروتوكول: «يرسل مدني فلسطيني تحت تهديد السلاح إلى نفق للمقاومة تحت الأرض حاملاً هاتف آيفون في سترته، وبينما يسير، يرسل معلومات نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي أس)».
ويضيف أن هذه الممارسة «انتشرت كالنار في الهشيم» داخل الفرق العسكرية. إن إجبار المدنيين – بمن فيهم أطفال على القيام بمهام تعرض حياتهم للخطر انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي، ويُلقي بظلال ثقيلة على المزاعم التقليدية بـ «أخلاقية» الجيش.

الخطاب المتطرف: تقاطع السياسي والديني

يربط «كسر الرتب» هذا الانفلات في الميدان بخطاب الكراهية والانتقام الدموي الذي صدر عن شخصيات سياسية ودينية إسرائيلية بارزة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول ليدفع إلى أن كل فلسطيني أصبح «هدفاً مشروعاً».
ويؤكد «دانيال» أن مقولة «لا يوجد أبرياء في غزة» تسربت إلى صفوف الجيش، فـ «تسمع ذلك طوال الوقت، وتبدأ في تصديقه».
كما يكشف الوثائقي عن دور بعض حاخامات الألوية العسكرية في تبرير الأعمال التدميرية على أسس دينية. يروي الرائد نيتا كاسبين كيف أن حاخام اللواء «شرح لي لماذا يجب أن نكون مثلهم في 7 أكتوبر/تشرين الأول. أنه يجب أن ننتقم منهم جميعاً، بمن فيهم المدنيون. وأننا لا يجب أن نميز».
ويُظهر أيضاً الحاخام المتطرف أبراهام زاربيف، الذي خدم أكثر من 500 يوم في غزة، والذي قال: «كل شيء هناك هو بنية تحتية إرهابية كبيرة». زاربيف هذا لم يقتصر دوره على إعطاء شرعية دينية للهدم الجماعي، بل قاد جرافات عسكرية بنفسه ويدّعي الفضل في ريادة تكتيك تبناه الجيش الإسرائيلي بأكمله، وهو الهدم الكلي للأحياء السكنية.

ندرة في الأصوات تعكس السقوط الأخلاقي

من المفهوم أن «كسر الرتب»، كمنتج إسرائيلي، لا يغفل عن ذكر هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لكن تركيزه الأساسي كان على ما حدث بعد ذلك داخل غزة.
وقد أكسبته نُدرة هذه الشهادات في المجتمع الإسرائيلي قوة وتأثيراً هائلاً، وجعلت منه تحدياً مباشراً للرواية الرسمية ما تسببت بضجة كبيرة على الساحة الإعلامية الدولية اضطر معها الجيش الإسرائيلي إلى التعليق رسمياً بترداد الكذب المعهود من أنه «لا يزال ملتزماً بسيادة القانون» وأنه «يواصل العمل وفقاً لالتزاماته القانونية والأخلاقية»، على الرغم من «التعقيد العملياتي غير المسبوق الذي يفرضه تمركز المقاتلين الفلسطينيين المنهجي داخل البنية التحتية المدنية». وكذّب الجيش بشكل قاطع شهادات الجنود المتعلقة بالانتهاكات المنهجية، وخصوصاً استخدام المدنيين كدروع بشرية مؤكداً أن «مزاعم إساءة السلوك يتم فحصها بدقة» – رغم أن سجل المحاسبة على نطاق واسع في الماضي يُظهر ندرة الملاحقات التأديبية أو القانونية لجرائم الجنود بحق المواطنين العرب -.
إن الشعور بـ»العار» الذي عبر عنه أحد الجنود الإسرائيليين القلائل الذين أدلوا بشهاداتهم لهذا الوثائقي ليس سوى نقطة باهتة في محيط من التواطؤ والانهيار الأخلاقي، ليس للقيادات الإسرائيلية (السياسية والعسكريّة والدينيّة) فحسب، بل وللمجتمع الإسرائيلي الموتور، ومن خلفه كل من وقف يتفرج على هولوكوست غزة بينما يسرف القتلة في سفك الدماء البريئة.

كاتبة لبنانية – لندن



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد