الحريّة بين التعبير والمعتقد

mainThumb

24-10-2022 12:39 AM

السوسنةـ كثر في الآونة الأخيرة استعمال عبارة "حريّة التّعبير" في أيّ سياق متعلق بقضايا الفكر والدّين والأخلاق، وغير ذلك من أمور تتعلق بالدّين والثّقافة والعادات والتّقاليد، وأصبحت سلاحا حادّا بتّارا للردّ على كلِّ المعارضين والنّقاد والمفكرين والعلماء وغيرهم ممن يشتغل بمجال الإنسانيّات شغلا علميّا ممنهجا دقيقا، ولا شكّ، أنّها عبارة متداولة بين العاميّ والمتخصص، وبين العالم والجاهل، فلقد نسمعها في الإعلام والشّارع والمضافات ومجالس البيوت وسهرات السّامرين، ونوادي العاطلين ومقاهي اللّاهين واللّاعبين.
ولقد أصبح يُستعمل ذلك التّركيب "حرية التّعبير" في كلّ السّياقات والمواقف وعلى كلِّ لسان وحال دون حدٍّ أو تعريف لهذا التّعبير، ودون ضوابط وشروط، فهو تعبيرٌ مطّاطيّ قد يُوظف بطريقة خبيثة أحيانا، وأخرى بعفويّة وإخلاص وبراءة، وترجع مهارة توظيفه إلى طبيعة مستعمِله ومخزونه الثقافيّ والمعرفيّ، فضلا عن دهائه وذكائه. وأكثر مَنْ يستعمله في المحافل العلميّة والكتابات المعرفيّة واللقاءات التّلفازيّة هم العلمانيّون والليبراليّون ورجال الدّين والفقهاء والمفكرون، فكلُّ فريق يوظف هذا التّركيب ليدافعَ عن أقواله وأفكاره وأحواله من منطلق "حرّيّة التّعبير"، وطبعا، وفي ظلّ غياب مفهومه وحدوده، وغياب ضوابطه فقد تحول إلى مِعْولِ هدم من جهة، ومِعْول بناء من جهة أخرى.
والحقّ أنّ ترك هذا التّعبير بهذه الصّورة الفوضويّة، والخلط بينه وبين حرّيّة المعتقد أو الدّين، لهو أمر خطير جدا، "فحريّة التّعبير" يُتعاطى معه على أنّه يحقُّ للمتكلم حرية الكلام والتعبير بغض النظر عن معايير الصح والخطأ، ومعيار الأخلاق والحقّ العام، ومعيار احترام الآخر وعدم تجريحه والطّعن بمعتقده. وبالتّالي، فدخل فيه السّب والشّتم والتّكذيب والطّعن بغير دليلٍ أو منهج علميّ، أو حجة دامغة أو غير دامغة، وأصبح مضمار الكلام مفتوحا على مصراعيّة بحجة "حريّة التّعبير"، بلا ضوابط أو أخلاق أو احترام لدين الآخر ومعتقده ومشاعره وأخلاقِه.
وعليه، فإنّه ثمة فرق شاسع وعريض بين حريّة المعتقد وحرية التّعبير، فحريّة المعتقد والدّين، حريّة كفلها الإسلام واحترمها، يقول تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيؤُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾. فهذا واضح جليّ في حريّة المعتقد والدّين لا في حريّة التّعبير، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال فتح باب حريّة التّعبير هكذا بلا ضوابط ومعايير، بل لا بدّ من أنْ يكون محكوما بتلك الضّوابط، وإلا أصبح اعتداء وعنفا وإرهابا للآخر، وهذا بلا شكّ، باب عريض للعنف المجتمعيّ والدّينيّ والأخلاقيّ وخلق الفتن والملاحم ربّما، لا يسمح به إطلاقا، فأول معيار، وهو أهمها، لحرية التّعبير، هو الأخلاق، والأدب، والأعراف، ثم معيار العلم والمنهج والعقل والمنطق، خصوصا إذا كان الكلام في الشّؤون الدّينيّة فكرا وتاريخا وعقيدة وفقها وتفسيرا وغير ذلك.
ومن هنا ركّز الإسلام على أهمية آلية الحوار والنّقاش والمجادلة مع الآخر، بأن يكون مبنيَّا على الأدب والأخلاق وبالحسنى والصّدق والمحبة بلا كراهية وحقد وغلّ، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾. وهذا، بلا ريبٍ، تأسيسٌ دقيق وجليّ لقواعد ومعايير "حرية التّعبير"، وهي ما لا نجدها في أغلب حواراتنا ونقاشاتنا، فإذا فتحنا وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وقنوات اليوتيوب لوجدنا الملايين الملايين من الحوارات والمناقشات والمجادلات بين المسلم وغير المسلم، أو بين المسلم والمسلم، أو بين المسيحيّ والمسيحيّ أو غير المسيحيّ، أو بين أبناء الطائفة الواحدة، أو المذهب الواحد، أو الفكرة الواحدة، تمتلئ بالسّباب والشّتم والصُّراخ والعويل والضّرب والهمجية والتّكذيب واللّعن والتّهديد واتّهام كلّ واحد الآخر بالكفر والعمالة والخيانة والزندقة وغير ذلك من أساليب العنف والإرهاب والبربريّة، وكل ذلك في جدال عقيم، ومراء واضح، وتعنُّت جلي، وتعصب أعمى، وأغلبهم للأسف من رجال الدّين والعلماء والنُّخب الثّقافيّة والأدبيّة.
وحتما، هذا مرفوض دينا وقانونا وعُرفا، فهو مدخلٌ خطير للعنفِ والقتل والإجرام، ومدخل خطير للفتنة والتّفرقة والكراهية، ومدخل للهدم والتّخريب، ولا شكَّ أنَّ هذه المآلات لحريّة التّعبير بالمفهوم الدّارج وغير المنضبط، هو السّبب الرئيس لمنعه وتحريمه وتجريمه، فهو اعتداء صارخ وإيذاء بيِّن للنّفس والمجتمع والإنسان، لذلك فلقد جاء في القرآن الكريم هذا النّوع من الجدال والنّقاش في سياق الذّم والإنكار والكذب، وهو فعل مرتبط بالكافرين والمتعصّبين والمنكرين للحقّ والحقيقة، يقول تعالى: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وجاء في الحديث الصحيح: "ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ"، وجاء أيضا: "احفظْ لسانكَ، ثكلتكَ أمكَ معاذٌ‌‍‍‍‍ وهلْ يُكَبّ الناسُ على وجوههِم إلا ألسنتهُم"، وجاء أيضا: "أنا زعيمُ بيتٍ في ربضِ الجنةِ لمن ترك المِراءَ و إن كان محقًّا، و بيتٍ في وسطِ الجنة لمن ترك الكذبَ و إن كان مازحًا، و بيتٍ في أعلى الجنةِ لمن حَسُنَ خُلُقُه".
وهكذا، فإنَّ الإسلام أباح حرية المعتقد والدّين بلا شروط وضوابط، بعد أنَّ بيَّن الطّريقَ الصّحيح والمستقيم، بالأدلة والحجج والبراهين القاطعة السّاطعة السّديدة، وسمح للآخر أنْ يعبِّر عن رأيه ومعتقده ودينه، بضوابط وشروط، حتى لا تكون فتنة وفساد كبير، لو تُرك الأمر على عواهنه، فالغاية من ذلك، هو المحبةُ والاستقرار، ولا يتّخذ بعض النّاس بعضهم أربابا من دون الله، وأنْ يجتمعوا ما استاطعوا على الحقّ والحقيقة، بأيّ زاوية من زوايا النّظر الصّادق السّليم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد