الملك يوقظ الضمير العالمي

mainThumb

18-06-2025 02:25 AM

كل ما في اللحظات الفارقة من ندرة وبكل ما في الكلمة الصادقة من شجاعة جاء خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني أمام البرلمان الأوروبي لحظة نادرة في الزمن السياسي، حيث اختلطت نبرة زعيم دولة بحس الإنسان المشغول بانحدار العالم من حوله لم يكن الخطاب مجرد تذكير بالقيم ولا مجرد تحذير من التدهور بل كان أشبه بنداء ضمير يُطلَق وسط ضجيج العالم محاولًا أن يعيد ضبط البوصلة الأخلاقية في زمن تبدّلت فيه المعايير واختلطت فيه الأدوار.
منذ كلماته الأولى، بدا الملك وكأنه يفتح صفحة حوار ليس بين دول، بل بين ذوات أنهكتها الصراعات وذاكرات جماعية تبحث عما تبقى من ثوابت كان ذكره لخطابه قبل خمس سنوات أكثر من مرجعية زمنية، بل كان تأطيرًا لتجربة عالم انهار على مراحل جائحة، حروب، أزمات متلاحقة، لكن الأسوأ، كما قال، كان في انحراف القيم عن مسارها، وفي تبلّد العالم أمام مشاهد الألم التي باتت متكررة حتى فقدت معناها.
رسم الملك صورة كونية قاتمة ليس فقط من خلال تعداد الكوارث بل عبر تفكيك الحالة الشعورية المصاحبة لها الانفلات الضياع تفكك الحقيقة. كل ذلك مهّد لعقدة مركزية في الخطاب الخوف من أن نفقد هويتنا الأخلاقية والإنسانية. في هذا السياق تصبح الحرب ليس مجرد صراع على الأرض بل على الرواية على القيم على "الوجهة التي يجب أن يسلكها المستقبل".
ثم جاءت الإشارة إلى التجربة الأوروبية ما بعد الحرب العالمية الثانية كحجة واقعية وليست رومانسية: لقد اخترتم ذات مرة أن تنتصروا للقيم بدل الانتقام، أن تعيدوا البناء لا الهدم، وهذا ما جعل السلام ممكنًا. كان استدعاء الملك لهذه اللحظة التاريخية بمثابة دعوة ضمنية للعالم كي يتذكر أن "الاختيار الأخلاقي" ليس ضربًا من المثالية، بل استراتيجية نجاة.
لم يكن الحديث عن القيم نظريًا؛ بل ربطها الملك بالقيم المشتركة التي تجمع الشعوب، مستلهمًا من الأديان ليس ليؤسس ثنائية الخير والشر بل ليبني جسورًا قادرة على مقاومة التيارات المتطرفة وحين استحضر الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس لم يكن يتحدث من موقع سياسي فحسب، بل من موقع الإنسان المسؤول عن إرث عابر للقرون هنا بالتحديد ظهرت البنية العاطفية للخطاب حيث اختلطت مشاعر الألم على المقدسات المستباحة، بالغضب المكبوت من انهيار الالتزام العالمي بحمايتها.
وفي ذروة الخطاب تحوّلت مأساة غزة إلى مرآة كاشفة للضمير العالمي إذ لم يتحدث الملك كقائد سياسي، بل كإنسان غاضب أمام تناقضات العالم سبعمئة اعتداء على منشآت طبية، مخيمات تُقصف، ومجاعة تُستخدم كسلاح، في ظل صمت دولي مخزٍ لم يكن وصفًا لمعاناة سياسية، بل لتشوهٍ أخلاقي بات مقبولًا لدى العالم استخدم الملك أدوات بلاغية قوية: "كيف يعقل"، "أن تسمح إنسانيتنا"، "أن يصبح ما لا يُتصوّر أمراً اعتياديًا؟". هذه التساؤلات ليست استنكارية فحسب، بل تمثل مرآة لما أصبح عليه الضمير العالمي: مُتكيّفًا مع الجريمة، ومتواطئًا مع اللامبالاة.
ثم جاءت المفارقة القاسية: ما كان يعتبر "وحشيًا" أصبح "معتادًا" وما كان يجب أن يهزّ ضمائر العالم أصبح رقمًا يُضاف إلى تقرير هذا التحول في المنظومة القيمية هو بحسب الخطاب الخطر الحقيقي ليس الحرب بل ما تتركه الحرب من تطبيع مع الانحدار أمام هذا الانهيار لم يكتف جلالته بالتشخيص بل دعا إلى خيار أخلاقي حاسم. فالقضية الفلسطينية لم تعد شأناً إقليميًا، بل اختبارًا عالميًا للإنسانية ذاتها وفشل العالم في إنهائها ليس فقط فشلًا سياسيًا بل سقوطًا في تعريف "الإنسان".
واختتم الملك كلمته ببارقة أمل حين أشار إلى أن طريق الخلاص لا يمر عبر التكنولوجيا بل عبر قرارات أخلاقية يومية تُصنع في الضمير وهنا، تحوّل الخطاب إلى سؤال مفتوح موجه للعالم. هل ما زال في وسعنا أن نختار الصواب؟ وهل بقي فينا ما يثبت أننا بشر بحق؟
بهذه النهاية لم يغلق جلالته الدائرة بل وسّعها فكل من سمع، بات معنيًا بالسؤال الأعمق. من نحن؟ وما الذي تبقى فينا من الإنسان؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد