تزوير في بيانات السعادة

mainThumb

30-03-2023 12:28 PM

يوم الإثنين من الأسبوع الماضي، كانت الذكرى السنوية العاشرة لصدور قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة باعتماد العشرين من آذار يوما عالميا للسعادة.

الكثيرون ممن نعرف أو نتابع أخبارهم، لم يأبهوا بهذه المناسبة التي طالما بدت لنا هجينة وهي تتحدث عن الشعوب السعيدة، لكنها هذه السنة جاءت وكأنها خارج السياق تماما.

في هذه الاحتفالية الغائبة، صدرت الأسبوع الفائت نسخة 2023 من "تقرير السعادة العالمي"، الذي تُعدّه "شبكة حلول التنمية المستدامة" الأمريكية، وهي تتعاون في استقصاء الأرقام الدولية مع مؤسسة غالوب لاستطلاعات الرأي العام.

التقرير المتعوب عليه، وهو يصنّف دول العالم في مؤشّر السعادة محسوباً بستة معايير، هي الدعم الاجتماعي والدخل والصحة والحرية وطيبة النفس ومعدل الفساد، أعطى لفنلندا المرتبة الأولى (للسنة الثامنة على التوالي)، فيما أعطى أفغانستان المرتبة الأخيرة، ليأتي لبنان قبلها مباشرة في المرتبة 129.

أيٌّ من الدول العربية والإسلامية لم يندرج في قائمة العشرة أو العشرين الأوائل، مع ملاحظة أنه كلما تأخر تصنيف الدولة في قائمة السعادة، كان متوسط العمر الافتراضي لمواطنيها أقلّ، ليصل الفارق أحيانا عشر سنوات، والأسباب معروفة.

المستخلص الأهم الذي ينتهي إليه تقرير العام الحالي، هو أن المسؤولية عن تعزيز أو تجريف السعادة لدى الناس، تتحمّلها السياسات العامة لدى كل دولة ونظام، وتتشارك فيها بيئة العمل، وأيضا المجتمع المدني.

نادرا ما كانت تأتي مسؤولية الضيم والنكد واختلال التوازن النفسي والبدني لدى الناس، بهذا التشخيص المُسيّس.

ولا ينسى التقرير أن يشير في غير مكان، إلى دور السوشيال ميديا في استنزاف طاقة الرضا لدى الشباب عن صورة الواحد منهم أمام نفسه، باعتبار أن الثقافة المرجعية لمنصات التواصل الاجتماعي هي المجتمع الأمريكي حيث معظم المليارديرات جمعوا ثرواتهم وهم دون سن الأربعين. ولذلك لا يكون مستغربا أن منسوب الغضب وأحيانا الحقد في لغة السوسيال ميديا بدول العالم الثالث يأتي أكثر قسوة.

تقرير السعادة العالمي لم يوقع نفسه في متاهة تعريف السعادة، حيث اكتفى بالتنقل بين توصيفات الرضا والرفاهية والتكافل، فنجا من مظنّة الانحياز، واكتسب الطابع الأممي الإنساني الذي يكاد يبشّر بالنظام العالمي القادم الذي يجري الترويج له الآن، باعتباره أقرب ما يكون لمجتمعات وثقافة الدول الاسكندنافية شبه الاشتراكية.

وضَعَ التقرير للسياسة والأخلاق هدفا نهائيا هو رفاهية الإنسان، فكان بذلك وكأنه يغنّي في العتمة الأممية الراهنة، وصَفَ الرفاهية بأنها ليست فكرة طريّة أو غامضة، بل هي التزامات للدول والسياسات العامة تُركّز على مجالات الحياة ذات الأهمية الحاسمة بالنسبة للمواطن العادي. وحدّد هذه المجالات الحيوية بأنها الظروف المادية، والثروة العقلية والبدنية والفضائل الشخصية والمواطنة الصالحة.

وحتى لا تصبح التزامات الدول والأنظمة مجرد بيانات بلاغية، فقد اعتمد تقرير السعادة تصنيفا لدول العالم، مرجعيته ومقاييسه هي قدرتها على تحويل الكلام النظري في الحكمة والرشاد إلى نتائج عملية، وذلك لضمان تحقيق المزيد من السلام الداخلي والخارجي لدى الأفراد، والمزيد من الثقة التي تتسابق الدول المتعثرة في توسيع فجواتها داخل نفوس مواطنيها.

وهو يعرض لقضية فجوات الثقة في نفوس المواطنين، عقد التقرير معادلة جبرية بين السعادة والمساواة، وكانت النتيجة أن الدول التي تصدرت قائمة السعادة هي نفسها التي تصدرت معايير المواطنة والمساواة.

قبل بضع سنوات أنجزت جامعة هارفارد دراسة لتطور حياة البالغين استغرقت 75 سنة. وفيها انتهت إلى أن السعادة تكمن في العلاقات الإنسانية والاجتماعية المتميزة التي قالت إنها وحدها الكفيلة بتذويب الكآبة وشحن الشبكة العصبية التي تسند البدن والروح.

شيء مماثل لتلك الدراسة الدهرية، خرج به تقرير السعادة العالمي لعام 2023. فقد وثّق لبيانات جائحة الكورونا كما عاشتها مختلف دول العالم، لتُظهر بياناتُه أن الدول التي تتضمن سياساتها ونهجها مشاركات تطوعية في التكافل الحقيقي – وليس التكافل المتسنّد على البلاغة اللغوية- هي وحدها التي تستطيع أن تجتاز أزماتها الكبيرة بأقل قدر من الخسائر.

وكان التقرير يقرأ في شبكة الأزمات الاقتصادية والمالية والمعيشية العالمية التي تداعت من حرب أوكرانيا، ليحذّر من هزات منظورة في السنوات العشر القادمة، هزات صعوباتها قد لا تكون مسبوقة، وبالذات للدول المكشوفة في منظومات التكافل أو التي استهلكها الفساد وعطب النصرة الاجتماعية التطوعية.

تقرير السعادة العالمي 2023، فيه الكثير من الجهد والبيانات والرؤية المشغولة بحرفة لكن كان مُلفتا أنه منح لإسرائيل المرتبة الرابعة بين المجتمعات الأكثر سعادة في العالم ـ بعد فنلندا والدنمارك وأيسلندا، وفي ذلك تزوير محتمل في البيانات يصعب توثيقه.

سوء حظ مُعدّي التقرير أنه صدر الأسبوع الماضي، في ذروة احتقان المجتمع الإسرائيلي وهو ينشقّ عموديا على حافة احتراب أهلي يستحضر السرديات التلمودية التي تأخذ فيها السعادة معنى آخر غير الذي يُعرّفونه ويتحدثون فيه ويُروّجون له في التقرير.

ويأخذ سوء حظ التقرير ومعه سوء نيّة مُعدّيه وتواطؤهم الأكاديمي، حجما مضاعفا أن إسرائيل التي أعطوها هذه السنة المرتبة الأممية 4 في السعادة، كانت في 2022 بالمرتبة 9، وفي العام الذي سبقه كانت في المرتبة 12.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد