هبة وجاكوب .. وهوس «السوشيال ميديا»

mainThumb

15-05-2023 09:37 AM

لماذا تقوّض أمٌ «راشدة» حياة أبنائها، وتتاجر بأعراضهم على الملأ، وتُعرّض نفسها للسجن، وتضحى موضع نقد واستهجان الجميع؟

ولماذا يتورّط طيار شاب في جريمتي تحطيم طائرته الخاصة، وإخفاء الأدلة المتعلقة بالحادث لتعويق العدالة، ويخضع لمحاكمة قد تفضي إلى سجنه لعقدين؟

كان هذان السؤالان مطروحين على العموم خلال الأسبوع الماضي، بموازاة انتشار الأخبار عن قضيتي «اليوتيوبر» المصرية هبة السيد، ونظيرها الأميركي تريفور جاكوب، أما الإجابة، فيبدو أنها ستكون واحدة في الحالتين: لحصد عدد أكبر من المشاهدات والإعجابات على وسائط «التواصل الاجتماعي».

وفي التفاصيل، أن هبة السيد كانت قد خرجت على قناتها في «يوتيوب» لتقول إنها «ضبطت ابنها في وضع غير لائق مع شقيقته»، ثم إنها سعت إلى استنطاق طفلين آخرين من أبنائها بشأن الواقعة، وهو الأمر الذي حقق لقناتها رواجاً لافتاً، بموازاة استدعائها إلى التحقيق بتهمتي الاتجار بالبشر، واستغلال أطفال لجذب المشاهدين بما يعرض حياتهم للخطر.

أما تريفور جاكوب، فقد وافق خلال التحقيق معه على الاعتراف بارتكابه جريمتين، عندما صوّر فيلماً لتحطيم طائرته عمداً، وقفزه منها بالمظلة، قبل أن «ينظف» مكان الحادث، ليعيق وصول العدالة إلى حقائق ما جرى، وهو أمر قد يكلفه السجن لمدة عشرين سنة.

على مدى السنوات التي واكبت ازدهار التفاعلات على وسائط «السوشيال ميديا»، لم تتوقف نتائج البحوث والدراسات الموثوقة عن إخبارنا بأن ثمة رابطاً واضحاً بين ارتكاب عدد من الجرائم الخطيرة وبين عالم تلك الوسائط. وفي بعض تلك الدراسات ثبت أيضاً أن تأثير المشاهدات والإعجابات على كثير من المتفاعلين يلبي حاجة نفسية، ويتحول هوساً يعزز الميول النرجسية، ويُحفز مناطق في الدماغ بشعور يماثل ما يتوافر عند إدمان المركبات الكيميائية.

لكن دراسات أخرى صبّت جلّ اهتمامها على العائد المادي المُتحقق من جراء كثافة المشاهدات والإعجابات على منصات «السوشيال ميديا»، وهو عائد بدا مجزياً ومغرياً إلى حد التضحية بطائرة، وارتكاب جرائم، وتعريض النفس لخطر الموت، أو تقويض الحياة الأسرية، والمتاجرة بأعراض الأبناء.

لذلك، لم يعد ما فعله الشاب الأميركي الأفغاني الأصل، عمر متين، في يونيو (حزيران) 2016، في أورلاندو بالولايات المتحدة، حين قتل 50 شخصاً في «نادٍ للمثليين»، عصياً على الفهم الآن.

فقد كشفت لنا شركات التكنولوجيا التي تدير وسائط «الإنترنت» الرائجة، أن هذا الشاب، الذي عُرف بانطوائه ومحدودية علاقاته الاجتماعية، تصفح التحديثات على حسابه في «فيس بوك» أثناء ارتكابه هذه المجزرة.

كذلك اكتشفت شركات الإنترنت الكبرى أنه أجرى عمليات بحث على «غوغل» أثناء القتل، مستخدماً الكلمات التالية: «إطلاق نار أورلاندو»، والأخطر من ذلك ما كشفت عنه سلطات التحقيق، حين أكدت أن متين أرسل رسالة نصية إلى زوجته خلال قيامه بقتل ضحاياه، سائلاً إياها: «هل شاهدت الأخبار؟».

أما ما فعله الأسترالي برينتون تارنت، منفذ مذبحة مسجدي كرايست تشيرش في نيوزيلندا، حين دشّن موقعه باعتباره صاحب أول بث إرهابي حي عبر وسائط «التواصل الاجتماعي» في التاريخ، فلم يكن سوى تأكيد عُمد بالدماء لتلك الخلاصة المؤسفة.

فقد بثّ تارنت في ربيع عام 2019، ما عُد لاحقاً أول بث حي لعملية إرهابية في التاريخ، ليصور وقائع قيامه بقتل 51 من المصلين المسلمين في مسجدين، بنيوزيلندا، بسبب دوافع فاشية، لاحظ المحققون توافرها عندما بحثوا في تاريخ أنشطته على مواقع «التواصل الاجتماعي» المختلفة.

ولم يستبعد كثيرون أن تكون مذبحة المسجدين صُممت من أجل عالم وسائل «التواصل الاجتماعي»، أو هذا على الأقل ما قالته «ديلي تلغراف» في مقال افتتاحي نشرته غداة الحادث، وهو أمر يجسد كابوساً في حد ذاته؛ إذ سنكون قد اكتشفنا للتو دافعاً جديداً لارتكاب الجرائم الكبرى، وهو، كما يبدو، دافع شديد الإغراء.

لقد وجد الباحثون الذين اجتهدوا في دراسة دوافع مرتكبي الجرائم المتعلقة بمنصات «السوشيال ميديا» أن القصص التي تحوي معلومات عملية تتضاءل فرص انتشارها على تلك المنصات، في مقابل القصص التي تثير الاهتمام، وتصنع المفاجأة والصدمة، كما وجدوا ميلاً لمشاركة المحتوى السلبي الصادم على حساب المحتوى الإيجابي.

وفي مراحل أكثر عمقاً في تلك الدراسات، وجد الباحثون أن الموضوعات التي تثير عواطف حادة؛ مثل الغضب والقلق والرهبة تحظى بالاهتمام الكبير من الجمهور، وهو الأمر الذي يعزز الميول الإجرامية لمن يقع فريسة لهوس «الترافيك» والإعجابات.

لن يستقيم عالم تلك الوسائط، وتُقبل مزاياها الفريدة، من دون احتواء ضروري لما يربطها بطاقات الإدمان والهوس، التي تحولت دوافع إجرامية في عديد المجتمعات.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد