مرضى نفسيون

mainThumb

04-06-2023 08:48 AM

يُعرَّف المرض النّفسيّ في أدبيات الطّب النفسيّ أو علم النّفس بأنّه: اضطرابات نفسيّة تؤثر في أداء الفرد، ومشاعره، وأفكاره، وسلوكياته؛ مما ينعكس على مزاجه ونمط حياته ونظرته للحياة والوجود، والمقلق في الأمر، أنّه لا يمكن التّمييز بين السّلوك الناتج عن المرض النَّفسي والسُّلوك الطبيعي، بشكل ملحوظ وواضح.
وفي هذه الحالة، يتدرج المصاب من مزاج الفرح إلى مزاج الحزن؛ أيْ من الضحك والطاقة العالية إلى البكاء والاكتئاب دون وجود أسباب تستدعي ذلك، لذلك يُسمى اضطراب ثنائي القطب، ويعرف أيضا باسم "بايبولار" أو الهوس الاكتئابي، وهو اضطراب عقلي خطير يتضمن تذبذبات شديدة في المزاج، فينتج عنه تغيرات غير متوقعة في الحالة المزاجية والسلوك؛ مما يؤدي إلى الشّعور بالضّيق الشّديد، وصعوبة في ممارسة الأمور الحياتية.
عند الإصابة بهذا المرض، ربما يشعر المريض بالحزن أو اليأس وفقدان الاهتمام، أو الاستمتاع بمعظم الأنشطة، فتتحول حالته المزاجية إلى الهوس أو الهوس الخفيف، ربّما يشعر بالابتهاج، أو الامتلاء بالطّاقة، أو الغضب على نحو غير معتاد. ومن الممكن أن تؤثر التقلبات المزاجية المذكورة في النوم، والطاقة، والنشاط، والقدرة على اتخاذ القرارات، والسّلوك، والقدرة على التفكير بوضوح.
ويسبب الهوس مشاكل أكثر وضوحًا في العمل والمدرسة والأنشطة الاجتماعيّة، عدا عن صعوبات في العلاقة مع الآخر، والهوس قد يؤدي أيضًا إلى الانفصال عن الواقع "الذّهان".
ومن أعراض الهوس أيضا، الشعور المبالغ فيه بالرفاه والثّقة بالنّفس (النّشوة)، وانخفاض الحاجة إلى النوم، والحاجة إلى ثرثرة غير عادية، ويحدث تسارع الأفكار، وتشتت، وسوء اتخاذ القرار، كالإسراف في الشّراء والأكل والشّرب بشكل مستمر، والعنف، والاعتداء، والتناقض الأخلاقي والسّلوكي والفِكريّ. يعيش حالة من الصّراع النّفسيّ، صراع بين القِيم والمبادئ والمعتقد الذي تربّى ونَشَأَ عليه، وبين شهواته ورغباته ومطامعه.
وهذا ما يفسر لنا حالة بعض النّاس من حولنا، على اختلاف طبقاتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والعلميّة، الحالة التي يتفق أغلبهم عليها من فوضى في نمط حياتهم وتفكيرهم وسلوكهم، لا يتفقون على وقت مأكلهم أو وقت نومهم أو وقت زيارتهم، وتجدهم بين حالة الغضب الشديد الذي من الممكن أن يتحول إلى إجرام لأبسط الأسباب، أو حالة المستهتر واللامبالي والمفرط بشكل جنوني. ولا ريب في أنّ هذه الفوضى المعيشيّة الملحوظة، وتقلبات المزاج والسّلوك، انعكست على نمط تفكيرهم، إذ أصبح تفكيرهم متقلبا بتقلب الحالة أو المزاج، أو بتقلب الزمان والمكان، أو أن يتبنّى "فكرتين متناقضتين" أو "رغبتين متناقضتين" أو "سلوكين متناقضين" في آن واحد. وثمّة نماذج كثيرة نعايشها ونتعامل معها بشكل يومي، منها على سبيل التمثيل، ما يلي:
النموذج الأوّل
لا شكّ في أنّك إذا سألت بعض النّاس الذين يعيشون في وطنهم العربي عن التّعليم المختلط بين الذكور والإناث، أو تطبيق اتفاقية سيداو، أو الاعتراف بحق الشّذوذ، أو سن قانون يبيح الإجهاض، أو يبيح المساكنة، أو التعري والإباحية، أو وضع نظرية التّطور في مناهجنا المدرسية بوصفها نظريّة إلحاديّة، فإنّهم سيعارضون كل ذلك بشدة، منطلقين من غيرتهم على الدّين والشّرف والعادات، ومدافعين عن الأخلاق والعفّة والمروءة وغير ذلك. في الوقت ذاته يسعى هؤلاء النّفر ليلا ونهارا ليهاجروا إلى بلاد الغرب غير متردّدين في أنْ يضعوا بناتهم وأولادهم في مدارس مختلطة مفتخرين ومتباهين بهم، وهم يتعلمون في مدارسهم الغربية كلّ ما سلف من قضايا كانوا يعارضونها ويحاربونها في وطنهم الأم، وتجدهم في بلاد المهجر ملتزمين بالقانون وبعادات مجتمعهم الجديد وفكره وسلوكه، ساعين بكل طاقتهم ليكونوا مواطنين صالحين عندهم، ليتحصلوا هم وأولادهم على جنسيتهم والإقامة الدائمة.
النموذج الثاني
ولا شك أيضا، في أنك إذا سألت أي مسلم يعيش في وطنه العربي عن مخططات الغرب في تغريب المسلمين وإفسادهم وتخريب أوطانهم، لحدّثك بالساعات عن فكرهم الاستعماري المجرم الذي يسعون من خلاله لتدميرنا فكريا وأخلاقيا وعمرانيا واقتصاديا، ومعارضا بشدة لفكرة تطبيق العلمانية والليبرالية في وطنه الأم. في الوقت ذاته، فهو لا يتوانى عن أنْ يذهب إليهم ليُسهم في إعمار الغرب ورفع نهضته وازدهاره، مقدما لهم خبراته وكفاءته وعلمه، ومُسهما معهم في مشروعهم التّخريبي أجلَ الدولارات، مادحا إياهم، ومعجبا بنظام حياتهم وحريتهم وتعليميهم ومساواتهم وعدلهم القائم، أصلا، على أسس عَلمانيّة أو ليبراليّة أو لائكيّة، ومن هؤلاء عدد غير قليل من رجال الوعظ والإرشاد أو من المتدينين.
النموذج الثالث

نشاهد كثيرا في حياتنا مجموعة من البشر ممن يتصبحون في محالهم التجارية، أو في سياراتهم أو مكاتبهم بتلاوات جميلة للقرآن، لعبد الباسط أو الحصري أو الغامدي وغيرهم، أو تجد رنات هواتفهم تسمعك الأناشيد الطيبة، أو الأدعية النبوية أو غير ذلك، وفي الوقت ذاته، تجد أحدهم في أثناء معاملته مع زبائنه والناس يكون نَزِقا، غشّاشا، كذّابا، سيئ الخلق، بخيلا. وتكمن خطورة هذا التناقض، في نظري، أنهم جعلوا القرآن العظيم كلاما للقراءة لا للتطبيق، لا يؤثر في سامعه أو قارئه، لأنه يوظف - للأسف- في سياق يخلو من الاستماع والإنصات للتفكر والتدبر والعمل به، فهؤلاء النفر، إمّا أنّهم يتعاطون مع القرآن العظيم بوصفه نوعا من أنواع الطّرب ليس إلا، وإما أنّهم، وبكل تأكيد، مرضى نفسيون.


النموذج الرّابع
ترى كثيرا من النّاس ممن لا يلتزمون بالقوانين والنّظام العام واحترام الآخر، ويلقي زبالته في الأماكن العامة كالشّوارع والحدائق، وتراه يسعى جاهدا باحثا عن واسطة هنا أو محسوبية هناك، لتمرير مصلحة شخصية له، أو ممن يقصِّر في عمله، ولا يحترم الوقت، ولا المراجعين ولا زملاءه، ويحاول دائما التّحايل على مسؤوله والكذب عليه، ليتهرَّب من مسؤولياته، أو تراه في بيته ظالما متسلطا مستبدا على زوجته وأولاده، غير آبه بهم، مقصرا في حقوقهم وواجباته تجاههم واحترامهم، في الوقت ذاته تراه من أكثر الناس حديثا عن سوء الخدمات والنّظافة العامة، وعن غياب العدالة وانتشار الفساد والظّلم والتّخلف وعدم احترام القانون.
النموذج الخامس
ولو ناقشت أي مسلم صاحب مشاريع ومصانع وثروات في قضايا محلية ووطنية لسارع إلى الحديث عن فساد حكومته، بأنَّها قسّمت النّاس إلى طبقتين، إلى رجال سلطة ينعمون بالخيرات والرفاهيّة، وعامة الشّعب المسحوق، وأنّ رواتب القطاع العام لا تكفي خبزا وزيتا، ويقف باستمرار ضد الفكر الرأسماليّ الظّالم، مطالبا بتطبيق الاقتصاد الإسلامي، وتحقيق العدالة، ونسف الطبقيّة. وفي الوقت ذاته، ترى هذا الرجل ينعم بالآلاف وبالملايين هو وأسرته، على ملذاتهم ورفاهيتهم، وعلى كلّ ما هو تافه أجلَ التّرف والتّباهي والبَطَر والبريستيج، وعمَّالُه في مصانعه وشركاته يتقاضون رواتب تكفيهم الكفاف، وربّما لا تكفيهم، عدا عن عدم احترامه لهم، أو تهديدهم بفصلهم وطردهم أو خفض رواتبهم كلما زلّ أحدهم أو نسي.
النموذج السّادس
أما إذا جئت على بعض العلمانيين والليبراليين، المنادين بالحرية والمساواة والعدالة والإخاء، والداعين لفكرة فصل الدين عن الدولة، فإنهم في أي حوار فكري أو ديني أو ثقافي تجدهم متصالحين ومتسامحين مع طروحات وشعائر كل الأديان والملل والنِّحل، تجدهم مدافعين شرسين عن سلوكات الفارغين، والشّذاذ، والعراة، وقطّاع الطّرق، واللّصوص، ومدافعين عن أفكار الملاحدة واللادينيين. ولكن في المقابل ستجدهم ضد أي طرح أو سلوك أو شعيرة أو فكرة لها علاقة بالإسلام، سواء أكانت تتوافق مع مبادئهم وطروحاتهم أم لا، فهم ضدها ومرفوضه عندهم بأي شكل من الأشكال. ساعتئذ، فإنك تقف حائرا مستغربا مندهشا من هؤلاء القوم، ومتسائلا، أهؤلاء، حقا، علمانيون وليبراليون أم مجرد مرضى نفسيين؟!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد