لو كنتُ أجيدُ الرّسم ..

mainThumb

17-08-2023 12:33 AM

 

مؤخرًا، وفي اللّيالي التي تفرضُ على الإنسان التّنقيب/ الحَفر داخِلَه، اكتشفتُ أنّ ثمّة مخلوقًا جِينيًا هُلاميًا، أسودَ اللّون، مُستديرًا وله أيادٍ صغيرة. لقد نظرتُ إليه وجهًا لوجه، ورأيتُهُ رؤيا العين، ولو أنّني أجيدُ الرّسمَ كنتُ رسمتُ له بورتريه بالفحم أو قلم الرّصاص. وإنّه ليسكُنُ نقطةً عميقةً داخِلي، كنتُ قلّما أصلُ إليها، أو أنظُرُ إليها حتّى.
يبدو أنّ حجمه بدأ يكبُرُ مع التّقدمِ في السّنوات، وأخذَ يمُدُّ أياديه، الكثيرة، إلى أماكِن أكثر وضوحًا وتأثيرًا. هل أستطيعُ تفسيره، في تموقُعِهِ الدّاخِلي، كما فسّر الخطيبي الوشم في وجوده الغائِر ككتابة بالنّقط على الجسد ترومُ تمزيقِ الكتابة العُليّا والتّملك، هو شيءٌ ما يشبه هذا، كأنّه "ثيمةٌ مهاجِرة" من التّصور الجيني الذي تركته القرية في الدّم، هل يُمكن مقاربة القرية بـ"السّخام" الذي يستخدم عند الوخز، وبالوخزِ تُهاجِر الصّفات أيضًا. هَل سأنظُر إلى هذا التّشوّه كمخلوق أم كعلامة؟.
قبلَ عدّة أيام وعندما استيقظتُ صباحًا كنتُ فاقدًا للذاكرة تمامًا، لثوانٍ معدودة، كانت عمليّة إعادة تشغيل أو استعادة الإدراك تأخّرت قليلًا، فانتابتني قشعريرة شديدة وخوف حينَ فتحتُ عينيّ على غرفتي فلم أعرفها، وكانَت الاستعادة توقّفت عند غرفةٍ كنت فيها بحدود العام 2004، فعلًا هذا ما حصل. وخلال ثوانٍ رجعت الذاكرة دفعةً واحدة، "الذّاكرة الموشومة" بذلك الكائن/ العلامة.
للأشياء عندَ انكسارها أثر أكبر ممّا نتخيّل، قبل عامٍ تقريبًا كنت في زيارة لبيتِ صديقي، وكانَ قد اشترى منفضة سجائر لأستخدمها فترة مبيتي عنده، وأعجبتني فأخذتها معي إلى المنزل. قبل أيام، سمعتُ صوت تكسّر زُجاج، ناديتُ صديقي الذي يسكن معي مستفسرًا، قال لي إنّه كسر (متكّةَ سجائر)، لم يخطر ببالي أن تكون هي، ولم يخطر ببالي أن تكون (متكّةً) أصلًا، لأنّ سؤال: لماذا سيحمل (متكّةً)؟ داهمني مباشرة. قلت له ولي بصوت مرتفع: (حتكون كاسة)، وقلت لنفسي ربّما قال ذلك من باب القول الذي يُراد به الإغاظة خاصّة أنّه ليس مدخنًا وتزعجه رائحة الدّخان.
صباحًا حين استيقظت وجدتُ أجزاء المنفضة مكوّمة بجانب القمامة، على الأرض، تكوُّمٌ بعد تبعثُرٍ هو هذا، انتشارٌ للجسَد أو تشظٍ بعد صعود الرّوح، أو بعد ارتفاعِ الصّوفيّ تمامًا، أو بعدَ عودة الذاكرة بعد ثوانٍ من اللاتذكّر، أو بعد إبصار محطّات عبور ذلك المخلوق/ العلامة، كم شيئًا تكسّر بنفس الطريقة؟، ماذا لو أنّني حينَ استيقظتُ كنتُ تكسّرت أيضًا، ماذا، لو حينَ أصبحتُ كنتُ لستُ أنا، أيّ شيءٍ أو شخصٍ أو مخلوقٍ آخَر. لو تحوّلتُ مثلَ (جريجور سامسا) على الأقلّ.
كيفَ سأتعايشُ معه، وأنا أعرفُ أنّه ليسَ بالإمكان إماتَتُهُ؛ لأنّه ثابتٌ وغائِر وقديم؛ لأنّه موشوم بطريقة ما، وإنْ تعايشتُ معه كيفَ سيفعل الآخرون هذا، وأنا حينَ كنتُ في مكان "الآخَر" لم أستطع!، كيفَ يُمكن لثلاثة نقاط أن تنتقلَ عبر الوخز إلى جسدٍ تتخفّى فيه ظاهريًا، ثّم تنتقلُ إلى جسدي؟، أستطيعُ تمييزها كأنّ لها رائحة، أو كأنّها لغةٌ منطوقة صريحة الدّلالة والإيحاء، لن أحتاج إلى التأويل يا أمبرتو إيكو، المعنى الواضح في جوفِ الشّاعر، وأنا الشّاعر هُنا، هنا فقط.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد