على حين غزة .. !

mainThumb

14-10-2023 11:54 PM

«يا فجرَ غزةَ الطويلَ عجّل قليلا ...عجل لأعرفَ إن كنتُ حياً أم قتيلا» ... هكذا تردد أرواح الغزيين الذين يصطفون في طابور الموت الطويل، حتى ساعة نشر هذا المقال ستكون عيون أخرى قد تسبَّلت وقلوب قد توقفت نبضتها الأخيرة، وخوف طويل رفيق رحلة الفلسطينيين وظلهم العاري وهم ينشدون قصيدة «وحدنا» أمام عواصف النار والفولاذ .
ينتشر الموت في الشوارع والأزقة، وفي البنايات وأكوام الركام التي تحولت لمقابر عابرة في زمن عابر. في الليل وفي النهار في كل زاوية يتأهب صاروخ حمل قائمة بأسماء ضحاياه ويعلق صورهم، ينتشر غبار الموت في السماء بكل الألوان، يسيل دماً في الساحات العامة ودخاناً أسود ....كم أصبح الغيم مخيفاً.
ما قيمة الكلمات وسط الموت؟ ما قيمة الكتابة والبيوت تنزل على رؤوس ساكنيها؟ ما قيمة الحديث عن الرحمة في عالم الغابة؟ ما قيمة الحديث عن العدالة في عالم تعرض ضميره للرشوة واتخذ قراره بتقديم شهادته المزورة وهو يرى بعينه كل ما يحدث؟ ما قيمة الإنسانية حين يصف يوآف غالانت خصومه بالحيوانات؟ حينها يتوقف كل شيء وندرك أن كل هذا الموت يتم ضد من لا يعتبرهم بشراً، ويقول للعالم الإنساني بأنهم ليسوا بشراً، وعلى الفلسطينيين أن يقنعوا العالم بأنهم لا يسيرون على أربع حتى يتوقف القتل.
ما يجري هو عملية إبادة جماعية، ضرب أبراج سكنية تبدو وكأن زلزالاً بأعلى درجاته ضرب المناطق أو قنبلة نووية ألقيت هناك، الطائرات لا تتوقف عن حرث غزة، آلاف الصواريخ تتوزع في كل الأماكن بلا إنذار، لحم بشري يختلط بالبارود والأحجار، والعظام تطحنها الكتل الإسمنتية، والدم يختلط بالرماد، وكل شيء أسود.
أن تنقطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء هذا لا يعني جريمة حرب في عرف العالم الحر، وأن يموت الأطفال والنساء، هذا لا يعني جرائم إبادة في القانون الدولي، فالضحية هنا فلسطيني. وهنا المعيار الذي يحدد إنسانية المتفرجين ويحدد الموقف والأداء المختل الذي يسجل فضيحة كونية تشاهد كأنها تتسلى بأفلام هوليود العنيفة.
تكتب الطبقة السياسية والأمنية في اسرائيل نهايتها على جثث الضحايا، ويسجل العالم الحر فساده على جماجم البشر، ويسيل التاريخ بلون أحمر في الشوارع وجثث متفحمة، وجنون من يقف على طرف الحدود بعد أن أصيب بعار النوم في نوبة الحراسة يفتش عن هيبة أهدرت، ويبحث عنها بين سكان غزة البسطاء والفقراء، بقتلهم يحاول استعادة كبرياءه المفقود بين ضلوع أطفال لم يبدؤوا الحياة بعد ونساء يحتضن أطفالهن.
فجأة صمتت كل مؤسسات الطفل والطفولة وأساطيل الدفاع عن المرأة، فالفلسطيني يسقط عن خريطة العالم، هذا قدره وقدر غزة أن تضبط العدالة الدولية متلبسة ببيع الضحايا في سوق السياسة والمصالح والنفط والغاز، ألهذه الدرجة يصل الأمر أن تجري كل هذه الاتصالات الكونية مع البيت الأبيض حتى تصل مياه الشرب للضحايا؟ هل يُعقل أن تدور كل هذه الاتصالات ولا أحد يتحدث عن وقف الحرب؟ باسم «حماس» تدمر اسرائيل غزة، تسحق منطقة لديها معها حساب طويل منذ أن جاءت بثورة ملأت الكون ومازال ورثتها ينزعون ماء وجه وكبرياء دولة، ويعكرون صفو احتلالها لهم، وبعد أن فاجؤوه على حين غزة وليس على حين غرة...! إنهم يستحقون الموت كيف يفكرون بهذا وكيف يتجرؤون؟
هل جاءت اللحظة لتصفية الحساب؟ هل كل هذه الإبادة وهذه القوة التي تجري لتحقيق نبوءة رابين بأن تُبتلع غزة؟ ما يجري أكبر من هجوم وأكبر من حرب، فما يحدث هو جعل هذه المنطقة الصغيرة غير صالحة للحياة الآدمية ودفع الناس للرحيل بكل الوسائل طواعية بعد انتهاء الحياة، وبالقوة والتدمير قسرياً بما تصبه الطائرات والبوارج من جحيم، وهو المشروع القديم بدفع الناس نحو سيناء وإسدال الستار على تاريخ مدهش ودامٍ سجلته هذه المنطقة الصغيرة التي حاولت اسرائيل أن تميتها بنُواحٍ خافت ولم تنجح، والآن تقتلها برجة عنيفة وعنيفة جداً.... لكنها لا تكفي لإفاقة العالم.
لم تبدأ اسرائيل الحرب بعد، هكذا قال رئيس أركانها يوم الأربعاء، وكأن كل هذا الدمار ليس سوى مقدمات، وكأن على الدم الفلسطيني أن يغطي عورة انكشافهم وقصورهم السياسي وغطرسة رفض كل مبادرات التسوية التي كان من الممكن أن توقف حفلة الموت المستمرة منذ عقود، كما تقول وسائل الإعلام فإن الجدل في المؤسسة لم يستقر بعد على الحرب البرية، قد يكون هذا تضليلاً ولكن أزمة إسرائيل في تلك الحرب قد تتفاقم أكثر بما يساوي السابع من أكتوبر، فالاجتياح الجزئي لا يصنع صورة النصر ولا يقضي على حكم «حماس» كما يخططون، والاجتياح الكلي شديد الكلفة في منطقة مزدحمة، وقد يخرج بعار جديد يطيح بما تبقى من قدرة الردع كان أصلاً يشكو من تآكلها.
الذاكرة المُتخمة بصور الموت والدمار امتلأت حتى عتبتها الأخيرة، وفاض الحزن عن مساحة الكون ليغطي محيطاته... ما يجري هو إعدام للإنسانية بالبث المباشر لا أعرف كيف ستُشفى منها وتعود تتحدث عن الإنسانية بكل ثقة... وبكل خداع.

 

* كاتب من غزة

(الأيام الفلسطينية)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد