دَمَقْرَطَة الغَباء «والاقتسام» .. وخبز الفداء

mainThumb

27-11-2023 10:04 PM


يتمنّى «جون كيربي» هذا الصّباح (صباح الإثنين) أن يتمّ تمديدُ الهدنة الإنسانيّة لحينِ "الإفراج عن (جميع) الرّهائن" على حدِّ تمنيه، قبلَ أن يعودَ "الاحتلال" لقصف ما تبقّى من غزّة طبعًا. كيربي وغيره من السياسيين في أمريكا وأوروبا يبدونَ في هذه المرحلة أكثرَ غباءً وأقلّ قدرة على استمرار تقديم تَمَثُّلاتهم عن "الشّعوب التي لا تُجيد تمثيل نفسها" بشكلٍ جيد ومُقنع. وربما هذا تطوّر غريب (للوراء)، لما كانَ تحدث عنه «إدوارد سعيد»، كنّا نتحدثُ عن "معرفة السلطة وسلطة المعرفة"، وأنّ "السلطة لا تنتج معرفة من أجل المعرفة بل تنتج معرفة من أجل المصلحة". أمّا الآن فلا نتحدّث عن معرفة أصلًا. نتحدّث تمامًا عن "هلوسات" غربيّة ومتناقضة تدّعي أنّها تفهم الشّرق تمامًا وخاصّة الوضع الفلسطينيّ، وأنّ لديها دائمًا الحلول السّحريّة، مثل "حلّ الدولتين" الميِّت، الذي أجزم أنّ كيربي (والإدارة الأمريكيّة) لو جاءَ وعاينَ إمكانيّة تطبيقه على الأرض لسَكَت إلى آخر يومٍ في عمره. وغير ذلك الكثير من الأمثلة المتعلّقة بـ"هلوسات" السياسيين حول "اليوم التّالي"، و"التّهجير" و"الدّولة البديلة"، والكثير أيضًا من التّناقض الصّريح والواضِح.
... أسوأ من عدم المعرفة وعدم إنتاج معرفة مقنِعة على أنّها حقيقية، هو الذي يقدِّم الوهم على أنّه ممكِنُ الحدوث، مع علمه التّام أنّ إمكانيّة تطبيقه حتى على الورق غير مُمكِنة، ويُسهم في استمرار "إدارة الصّراع" بطريقة "الإبر المُخدّرة"، والذي يُقدّم الفشل على أنّه "أنموذج ناجح"، والذي يقدّم الميِّت على أنّه حيّ يُسعى.
... من المؤكّد أنّ الهدنة "المؤقتة" ستنتهي ولو تمّ تمديدها يومين، وسيعود الاحتلال للقصف بشكلٍ أعنف في ظلِّ هذا "الوضع المُخدِّر" عربيًا وفلسطينيًا. (علينا في إطار "حفلة" تبديل المصطلحات أن نتوقف عن استخدام مصطلح الانقسام والتّحول لاستخدام مصطلح الاقتسام).. وفي ظلِّ الاقتسام للنُّتف المتبقية من الأرض بينَ "كيانينِ يدعي كلٌ منهما فلسطينيّته"، وفي ظلِّ هذا الوضع الدّوليّ الذي يحكمه الغَباء، والرّهانات الوحيدة أمامَ وقف العدوان تبدأ ببسالة المقاوِمين وقدرتهم على الصّمود، وتمرُّ بقدرة "الفلسطينيّ" على إيجاد صيغة حقيقيّة موحّدة يمكن أن تضمَن أفقًا سياسيًا وصفقة كبرى للأسرى بدلًا من الجلوس "على الفُرجة" للتّجاوُز، وليسَ انتهاءً بضغط "سكّان الاحتلال" والدّول لوقف العدوان والوصول لصيغة اتّفاق، يكونُ منطقيًا وعقلانيًا أكثر مما يتمنّى«كيربي».
... في العام (2006) نُشِرَ فيلم من إخراج مايك جودج كان عنوانه: "ldiocracy"، أو "l'idiocratie" بالفرنسيّة، وهو مصطلح جاءَ من نحت كلمتين هما: "idiocy"/ "idiotie" وتعني الغباء أو الحمق أو البلاهة، وكلمة "democracy"/ "la démocratie" وتعني الديمقراطيّة. وفي محاولة تعريب هذا المصطلح اجتهادات عدّة منها: حُكم البلهاء، حكم الغباء، حُمقراطيّة، إيديوقراطيّة، دَمَقرطة الغباء. وربّما أميل أنا للأخير.

... مرّةً (كنتُ) أنظُر في وجْهِ الشّهداء، ومرّةً في وجهِ رغيف الخُبز المعلّق على الدّراجة. ومرّة أُهرِّبُ نظري عبر الماء العالِقِ في نافذة القطار، فتبدو الأشياء في (الخارجِ) كأنّها مخيّمات، وأرغفة خبز، وشهداءَ يمشونَ مطمئنينَ في السّحاب. "أرجو أنْ تكونَ مِن نصيبِ بطل"، وتطلّ «سميرة عزّام» في ذاكرتي عبر قصّةِ "خبزِ الفداء"، وتُطلُّ أمّ سَعد، وسَعد، وكعك الشّوارع، و"الرّجالُ البنادِق". وأفكّر لماذا رأى «شُكري» الخبزَ حافيًا؟، هل تذكرون أنّنا نقول: "أكَلَ خبزًا حافْ"، أيْ خبزًا فقط؟، أي بلاغة لغويّة في مشهد الخبز والشّهيد؟ حينَ عادا معًا للأطفالِ المنتَظِرين. "خبزَنا كفافَنا أعطِنا اليوم"، يُصلّي قبلَ اختراع مفهوم الخَطيئة المَسيحُ الفلسطينيّ، وقبلَ أن يكونَ جسدُهُ خُبزًا، وقبل أو بعدَ أن يكونَ كانَ اسمُ مدينته، جارةُ غزّة، حيثُ كلَّمَ النّاسَ طِفلًا: بيتَ الخبز، بيتَ لحم. خبزَهُم كفافَهم أعطِهم اليومَ وخبزَ الحريّة الذي يسدُّ جوعَ القلب، وخبزَ الفِداءِ والفِدائيّ (حافي القدم).. الذي يواجه المرحلة "التّعيسة" هذه.

"لا جوعَ في روحي؛
أكلتُ من الرَّغيفِ الفذِّ ما يَكفي المسيرَ إلى نهاياتِ الجِهات،
عشاؤُكُم ليسَ الأخيرَ وليسَ فِينا من تَراجَعَ أو تَداعى".
محمود درويش.

 

* كاتب فلسطيني



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد