سبعونَ يومًا من «إذا مش عاجبَك .. حرِّرها إنتْ»

mainThumb
REUTERS/Ammar Awad مواطن فلسطينيّ يمشي على أنقاض منزله الذي هدمه الاحتلال في القدس

15-12-2023 03:19 PM

 

(يكتُبُ) مستخدمُ فيس بوك فلسطينيّ، لمستخدمٍ آخَرَ فلسطينيّ أيضًا، كانَ (كتَبَ) منشورًا غاضبًا عبر فيسبوك: «إذا مش عاجبَك.. إنْزِل حرِّرها إنتْ». الأوّل يكتُبُ في سياقِ ذكر الفظائع التي يقوم بها الاحتلال، أمّا الثاني فغاضبٌ من كلِّ شيء ويكتبُ غضبه و"شتائمه" وحديثه عن عدم جدوى الفيسبوك، وكلاهُما يكتبان بكلّ الأحوال، وأنا أكتب. يبدو أنّ هذا العدوان الذي لا يُريدُ أن ينتهي، والذي دخل يومه السّبعين، بكلِّ ما كشفه وعرّاه من حالِ الفلسطينيين والعرب والعالم، سيدفعنا فيما بعد (لو ظلَّ هناكَ "معنى" أصلًا لما بعدَ) لدراسة التّحولات الكبيرة التي طالت المجتمع العربيّ تحديدًا بعد ما يسمّى بـ"الرّقْمَنة" وبعد وسائل التواصل الاجتماعيّ، إذْ يمكن الانتباه، وسأعيدُ ما قلته سابقًا، إلى التّحول من كون المجتمع "ظاهرةً صوتيّةً"، إلى كَوْنِهِ "ظاهرةً نصّية" أو سأستخدم مصطلحَ "ظاهرة نَصّويّة" للتفريق بين استخدام الكلمة في مجال الدّراسات الأدبيّة وبين هذا الاستخدام الأقرب إلى السيسيولوجي. "ظاهرة نصويّة" تزاود على بعضِها البعض فقط، في حينِ أنّ الصواريخ ليسَت "كلمات".. والشّهداء بشر، والجوع يفتك بمليوني إنسان.. على أرضِ الواقع لا هُنا.. في "الافتراضيّ".

أقصِد بالتّحول عدّة قضايا، منها ذوبان الصّوت في "الفضاء الرّقمي"، وتحوّله إلى نُصوص "صامِتة"، والصّمت بكل الأحوال ضِدّ الحريّة، وهو هدفُ كلّ السّلطات السّياسيّة التي قامت على الأرض. إذن أصبحنا أمام مجتمع يُعبّر عن رفضه أو رِضاه، غضبه أو فرحه، إيمانِهِ أو كفره، على وسائل التّواصل الاجتماعي عبر الكِتابة لا على الواقع عبر صوتِه، بل و"تتم" المُزايدة والمحاسبة والمتابعة على أساس هذه الكتابة، التي تفقد أصلًا قيمتها ومعناها أمامَ الذي يجري، والذي سلبَ الإنسانَ معنى وجودِه الإنسانيّ وجعله بلا قيمة تمامًا.
في العام 1982 قامَ مجموعة من الكتاب والصحفيين والشُّعراء الفلسطينيين المحاصرين في بيروت (لـ88 يومًا)، على رأسهم محمود درويش ومعين بسيسو وغيرهما، بإطلاق "جريدة المعركة" التي كانت ثبتًا تاريخيًا توثيقيًا لتلك المرحلة. وبقياسِ الاختلافِ بين "جريدة المعركة" و"معارك وسائل التّواصل الاجتماعيّ"، يمكن الانتباه إلى قضيَّتين أساسيَّتين، الأولى وجودُ القدرة على الكتابة، وامتلاكِ الشّخص ما "يُقالُ" قبْلًا. بمعنى أنّ كتابة المقال أو القصّة أو أيّ أشكال الكتابة قديمًا للعموم كانَ يخضعُ لحدٍ أدنى على الأقل من "المعياريّة"، إذْ كانَ يمتلك الكاتب حدًا أدنى من الأفكار واللغة ليستطيع الكتابة للعموم عبر الصّحف، وأيضًا كانَ هناكَ دائمًا نوع من "التّخصص"، هذا كاتبٌ، مثلَ أن تقول هذا طبيب، أو مهندّس. أمّا حاليًا، ومع امتلاك "الجميع" (حقّ) الكتابة عبر مواقع التّواصل الاجتماعيّ، والمواقع الإلكترونيّة والصّحف وغيرها، فقد انتفى المعياران تمامًا، فأصبح الجميعُ يفتي في كلِّ شيء، مع أنّه ربما تكون وظيفته الأساسيّة في الوضع الطبيعيّ ليست الكتابة، وأنّه يستطيع خدمة القضيّة التي يكتب عنها بطريقة أخرى وأكثر فائدة من الكتابة!. القضيّة الثانية تتعلّق بالمتلقّي، إذْ أفترضُ أنّ ردّة فعله قديمًا كانت على قراءة مقالٍ مهم أو مشاهدةٍ حدثٍ عظيم هي النّزول إلى الشارع للتعبير عن غضبه ورفضه والضّغط على حكومته، أمّا اليوم.. فإنّ ردّة فعلنا جميعًا هي مشاركة المقال أو الفيديو أو أيّ شيء على منصات التواصل وفقط، واعتبار أنّ هذه المشاركة (الافتراضيّة) هي ردُّ الفعل الطبيعيّ المطلوب منّا، و"حيلة العاجز". وقد يقول شخصٌ إنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ أيضًا تشكّل منصة صوتيّة وليسَ نصيّة فقط، فيها خدمات مثل "اللايف" وغيرها، والسؤال هنا حول نسبة مَن يستخدم مثلًا خدمة "اللايف" مقارنة بمن يستخدم (الكتابة). 
هذا ببساطة وسرعة، وإذا سألنا الآن لماذا تلاحق السّلطة السياسيّة، ونفس "مُلّاك" هذه المنصات، الممارسة "النّصويّة" إذا كانت بالنّسبة لها أخفّ وطئًا من الصّوتِ في الميادين والشّوارع، فيمكن أنْ نقول إنّ السّلطة ذات تعطّش دائم للقَمْع، فلو انتقلت الشّعوب للتعبير بلغة الإشارة للاحقتها في ذلك، إضافة إلى أنّ التجربة الأولى لهذه الوسائل في "الحِراكات العربيّة" خلقت قلقًا دائمًا منها، أو من أيّ تحشيد للكامِنْ من خلالها. هذا لا يعني بكلّ الأحوال مثلًا أنّ زيادة التأييد للفلسطينيين على وسائل التّواصل أمر سيء، بل المشكلة هي في تحول التأييد "الافتراضي" إلى واقعٍ عمليّ، وربما في أوروبا، الهوّة أقلُّ، إذْ إنّ الأعداد التي خرجت إلى الشّوارع تدلُّ بشكلٍ ما أنّ الجهد الافتراضيّ انعكس على الواقعيّ. ويحقّ لنا أن نسأل: هل يُحقق "العنف الثّوري" المُمارَس على وسائل التّواصل فلسطينيًا وعربيًا أثرًا في الواقعيّ؟ ففي كل قضيّة مثلًا يطالب جمهور عريض بإقالة مسؤول أو محاسبة مخطئ ولا يتمّ ذلك، بل يحاسب المُطالبون، وهل الهاشتاغ لإيقافِ العدوان في غزّة، وفي جنين والقدس وكلّ أماكن وجود الفلسطينيين، وصراخنا هذا كلّه عبر الكتابة يمكن أن يُحدثَ شيئًا؟، أو هل لو كانت هذه المطالبات "صَوتيّة" في الشوارعِ العامة ودائمة سيكونُ لها الأثر ذاته؟، هذا السّؤال حتمًا ستشكّل "لا" إجابته الشّافية.
مرّت في الثامن من ديسمبر الجاريّ، الذكرى السادسة والثلاثين لاندلاع "الانتفاضة الأولى" في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة. في الوقتِ الذي فقدَ فيه الكلامُ كلّه، ضمن سياقِ بقايا "حياة" الفلسطينيّ، كلَّ معانيه، وأصبحَ ثقيلًا وصعبًا.. وبلا قيمة. وفي الوقتِ الذي نطلبُ فيه من "العالم" (كمجاز مُرسل مُستهلك لذِكْر الكّل كبناءٍ رمزيّ وقَصْد الكُل أيضًا في حالته الفرديّة)، أنْ يكونَ "شاهدًا" على هذه المأساة المقيمة، وكنّا نطلبُ هذا منذُ زمن: "إشهد يا عالم علينا وعا بيروت"، وكنّا نقصدُ.. "إشهَدْ لا شاهِد"، وكنّا لا نعرفُ كيفَ أنّ "كلّ زيادةٍ في المبنى هي (تحوُّلٌ) في المعنى": شَهِدَ، شَهُدَ، شاهِدٌ، مُشاهَدة، إشهاد، شاهَدَ، استشهَدَ، استشهاد، تشهَّدَ، تشهُّد، شهيد. وكنّا نحسبُ أنّ الاستشهادَ من جذرٍ لغويٍّ مختلفٍ، وأنّه لا يمكِنُ أبدًا أنْ تجتمِعَ "الشّهادة" و"المُشاهدة" في وطنٍ واحد، وأنَّ "طينة" الفلسطينيِّ مختلفةٌ عن كلِّ صلصالِ "الدّنيا"، وأنّ كلَّ فلسطينيِّ "شهيدٌ"، وأنّ "الدّم (العربيّ) لا يصيرُ ماءً" أو (نفطًا) أو (حبرًا).. لبيانات رديئة مستنسخة.
كنّا لا نعرفُ.. ونقول.. "سجّل يا زمان".. "سجّل يا تاريخ".. ولا نعرفُ أنّه في مرحلةٍ ما سنجدُ أيامنا "الراهِنة" تزوّر أمامنا، أو يزوّرها أبناءُ جلدتنا بأيدهم وأيدينا، وأنّه لم يعُد لفعلِ "التأريخِ" أهميّةٌ أبدًا، فـ"التاريخ" القادم من غزّة مباشرةً يكفي لتنطِقَ الحجارة، ويكفي لينفي عن الإنسانِ صفة البشريِّ، ويكفي.. لـ"نشهَدَ".. انتهاءَ السّماواتِ والأرض.
وكنّا لا نعرفُ أنّ كلّ الأصواتِ ستعلو فوقَ "صوتِ الانتفاضَة"، دونَ أنْ نفطَنَ إلى أنَّ أوّلَ صوتٍ كانت تُحاوِلُ إخمادَهُ، وهو صوتُ الذينَ مَضَوا "إلى مائدة التّفاوُض"، هو الصّوتُ النتيجة.. الصّوتُ الهدفُ الخاطِئ.. الذي "انتصَرَ/ احتَضَر" نهايةً ليترُكنا في آخِرِ المشهدِ الأندلسيِّ "حفنةً من غُبار" مقسّمة بينَ شهداء ومُشاهِدين. وكنّا لا نعرفُ أنّ الوهمَ مريح، وأنّ له قدمينِ وآلافَ الألسُنْ، وما زلنا.. لا نعرفُ كيفَ ومِنْ أينَ تستمدُّ هذه الألسُنْ قدرتها على الكلام/ "البَغْبَغة"، التفلسُف و"الدّفاع عن الغَلَط"، والخوض في كلّ شيء.

 

* كاتب فلسطيني



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد