هركلة المشهد

mainThumb

23-04-2024 09:02 PM

احترت أي كلمة أستخدم لوصف آثار الضربة الإيرانية على إسرائيل.
هل تصلُح كلمة «بهدلة» أم يجب أن ألجأ إلى كلمة أقوى لأن «البهدلة» تنحصر في أمر محدد. أما هنا فـ»البهدلة» شاملة وهي تحتاج إلى كلمة خاصة. ففكرت طويلاً قبل أن ألجأ إلى كلمة «هركلة» معتقداً أنها عامية، لأكتشف مجدداً أنها كلمة فصحى ونحن نلفظها بحرف الجيم على الطريقة المصرية فصارت «هركلة» أو «هرجلة» وأنها من قاموس الأضداد، أي تحمل معنيين متناقضين: التماسك في المشي أوالانهيار. وخطر في بالي أن المعنى الذي اعتقدناه عامياً غلب المعنى الفصيح. فلنعتبره فصيحاً ولنتابع.
بعد انتهاء الضربة الإيرانية على إسرائيل بدا المشهد في حال من الهركلة. وارتفعت الأصوات التي تَكذُب علناً. فإسرائيل بقيت أياماً عدة تتوعد بردٍ قاسٍ رغم التحذيرات الأمريكية لها. كما نسيت أو تناست أن الدفاع عن إسرائيل خلال الضربة لم يكن ممكناً لولا الدفاعات الأمريكية والبريطانية والعربية التي حمت إسرائيل.
لقد تحولت إسرائيل من حاميةٍ إلى محمية، وصارت في حاجة إلى من يحميها من أعدائها الإيرانيين وعرب المقاومة، وهنا تقع مفارقة العجز الإسرائيلي التي حاول نتنياهو تغطيتها بالتهديد والوعيد ثم اضطر إلى القيام بضربة رمزية بلا معنى.
أما الهركلة العربية وهي الأساسية في نظري، فتكمن في قيام أنظمة عربية بمساعدة إسرائيل عسكرياً بشكل علني، فشاركت في الدفاع عن دولة الاحتلال بحجة أنها دولة تتعرض للعدوان وبأنها تحمي حدودها الجوية.
والمشاركة العربية كانت شبه خرساء، وكانت تنم بالتالي عن ما تبقى من حياء، لكنه لم يكن حياء كافياً لحمايتها من هركلة المشاركة في حرب إسرائيل ضد إيران.
نصل الآن إلى الهركلة في بيت القصيد، وهي كناية عن مزيج من الضعف والهبل والعمالة. إنها هركلة لبنان.
الانقسام الطائفي أضفى على الوضع اللبناني صيغة الهبل، كما أضفى عليه صيغة العمالة.
الهبل يكمن في العماء الذي يفرضه الانقسام الطائفي على الناس، فسرت في المجتمع إشاعات عن أن الضربة الإيرانية كانت مسرحية. وهذا عين السذاجة.
أما الضعف فهو واضح في استقواء الميليشيات المتطرفة على اللاجئين.
صار لبنان أشبه بالعصفورية السياسية التي يديرها العملاء والمجانين. وصار المراقب بالتالي عاجزاً عن فهم هذه اللغة العمياء التي تقول ولا تقول. وهي بالتالي تبعث بتحية عميقة إلى الهركلة الإسرائيلية.
كما أن الهركلة تمتد إلى مصر عبر شخصية السيدة نعمت شفيق «مينوش» التي تسلمت منصب رئيسة إحدى كبريات الجامعات في العالم، أي جامعة كولومبيا – نيويورك، كي تقود عملية اعتقال الطلاب العرب والمؤيدين للقضية الفلسطينية.
في مقابل هذه الهركلة تنتصب شخصية الكاتبة والأكاديمية الفلسطينية نادرة شلهوب – كيفوركيان، الأستاذة في الجامعة العبرية في القدس، التي منذ شهر آذار تُهدد في وظيفتها ثم تعتقل نتيجة مواقفها الوطنية والإنسانية. نادرة هي نموذج مقاومة الهركلة في أجمل صورها. لها التحية وقلوبنا المفتوحة.
في مقابل الموقف النبيل الذي اتخذته شلهوب، يأتينا كلام واضح من نتنياهو مليء بالكذب والادعاء محاولاً فيه تبرير المجاعة والإبادة في غزة.
قال نتيناهو لوزيرة الخارجية الألمانية وهو يريها صوراً عن الحياة «الرائعة» في غزة: «هذا حقيقي. هذا هو الواقع. وليس مزيفاً كما فعل النازيون». ذهب رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى الفخ بقدميه. لم يدفعه أحد إلى القيام بهذه المقارنة السلبية مع جيشه، بل اختار أن يرمي بنفسه في الحفرة. مبروك. هذه هركلة تليق بإسرائيل.
لم يسبق أن تهركلت إسرائيل كما حصل منذ بداية غزوها لغزة. لقد نطح الإسرائيليون التراب بحثاً عن أنفاق، فابتلعهم تراب المدينة المقاومة وحولهم إلى أشلاء.
المشهد بأسره ابتلعته الهركلة، والحكاية تأجلت خمسة وسبعين عاماً وكان ينقصها أن يحتله الفلسطينيون ويحولوه إلى مشهد عزٍ وافتخار.
كل شيء تهركل ما عدا غزة التي دخلت في قاموس المدن العظيمة، فألمها عظيم وأهلها أبطال.
هل دخلت غزة قاموس المدن العظيمة أم اكتفت بدخول قلوبنا؟
إنها على الأرجح كما كتب شاعرنا محمود درويش مرة: «ونظلم غزة لو مجدناها لأن الافتتان بها سيأخذنا إلى حد الانتظار، وغزة لا تجيء إلينا، غزة لا تحررنا، ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصي سحرية ولا مكاتب في العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غُزاتها في وقت واحد، وحين نلتقي بها ذات حلم ربما لن تعرفنا، لأن غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار».

(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد