أملًا بتجاوز التّصنم في المكان

mainThumb

29-04-2024 08:00 AM

شئنا أم أبينا، فإنّ حربَ الإبادة الإسرائيليّة على قطاعِ غزّة، وعلى «الكُلِّ» الفلسطينيّ، كانت نقطة تحوُّلٍ فاصلة جدًا، في الوعي.. وفي الوعي الغربيّ خصوصًا. وإنّ الأمرَ بسيط؛ ففهمُ ما يجري معزولًا عن السياق التّاريخي الذي أنتَجَه أمرٌ مستحيل، مثلما هي قراءةُ عملٍ أدبيّ بمعزلٍ عن السّياقِ الذي كُتِبَ فيه. و«وطلبة» الجامعاتِ الأميركيّة خصوصًا، قرأوا هذا في كُتب إدوارد سعيد، معلِّمنا، التي مازالوا يدرسونها خاصّة في جامعة كولومبيا حيثُ كانَ يُدرِّس، وما كانَ منهم إلّا أنْ رجعوا قليلًا إلى كتب التاريخ؛ ليفهموا «السّبب» الذي أفضى إلى النتائج الحاليّة، وحينها يمكِنُ ببساطة.. فهم كيفَ تبلورَ مصطلحٌ مثل «الشّرعيّة الدّوليّة» من أساسٍ غير شرعيّ وهو الاستعمار الاستيطانيّ لأرضِ فلسطين التاريخيّة، ويمكنُ فهم بطلانِ الادّعاءات الصّهيونيّة المرتكِزة إلى «الدين»، من كتاباتِ منظّرينَ ومفكّرين ومؤرّخينَ يهود، وبلغةٍ «إنجليزيّة» فصيحة!، ويمكِنُ تفكيكُ الهيمنة الصّهيونيّة على المتلقّينَ الغرب لسنواتٍ بأدواتِ المالِ والإعلام، ويمكِن تأمل انهيار القيم الغربيّة كلّها في لحظة «عماء استراتيجيّ» وخوف على مشروعهم الاستعماريّ في فلسطين.
من جهةٍ أخرى، شئنا أم أبينا أيضًا، فأنّ الدّول الأوروبيّة والولاياتِ المتّحدة استطاعوا إرساءَ منظومةٍ قيميّة، ومنظومة ديمقراطيّة فريدة وعادلة داخليًا، لا يمكنُ إنكارُها؛ فالشّعوب الغربيّة اعتادت على أنْ تتظاهر، حيثُ «لا تمثّل حرية التّظاهر (مثلما هي حريّة التدين والتّفلسُف) خطرًا على كيانِ الدّولة»، واعتادوا حريّة الرأي في انتقادِ كلِّ مفاصِل الدّولة، وأكثر من ذلك.. إذْ اعتادَ ماكرون الفرنسيّ على البيض والصّفعات كلّما نزل إلى الشّارع، وغيره كُثُر، أمّا الشارع الأمريكيّ فتظاهر ضدَّ الحرب على فيتنام والعراق والفصل العنصريّ في جنوب إفريقيا وغير ذلك، ولم يكُن أحدٌ يتوقّع أنّ ثمّة «محظورًا» لا يمكنُ المساسُ به والاحتجاجُ عليه، حتّى اكتشفوا أنّه يمكِنُ التظاهرُ ضدَّ بايدن (العجوز) على أرضِ الولاياتِ المتّحدة لكنْ لا يمكنُ التظاهر ضدَّ نتنياهو الذي يرتكب «محرقةً نازيةً» جديدة!، وأنّ مصطلح «معاداة السّاميّة» فضفاض وواسِع وغير مُحدّد المفهوم أكثر من مصطلح «الإرهاب»، وأنّه في لحظةٍ.. يمكن لعضو كنيست متطرِّفة أنْ تنعت الإدارة الأمريكيّة برمّتها بـ«معاداة السّاميّة».
من جهةٍ ثالثة، فيبدو أنّ الجهودَ الأميركيّة لنشرِ قِيم «العم سام» الديمقراطيّة في البلادِ العربيّة والإسلاميّة جاءت بنتائج عكسيّة، إذْ بدأت بنقل تجارب القمْع العربيّة بطريقة طبق الأصل؛ ليسَ لأنّها اعتقلت أكثر من 600 طالبٍ أميركيِّ من داخلِ الجامعات، إضافةً إلى مُدرّسين ومرشّحة للرئاسة، بل لأنّها أيضًا لجأت لـ«استكتابِ الفلسطينيّ»، كما استُكتِبَ ويستَكتبُ منذُ زمنٍ إلى اليوم لصالِح أجنداتِ أيّ دولةٍ في الإقليم، ويسوَّقُ على أنّه المعبِّرُ عن الشّعب الفلسطينيّ، فيشكُر وينتقد ويُعطي ويأخذ ويَمتَنْ باسم هذا الشّعب. في صحيفة «newsweek» الأمريكيّة (ونقلته «The Jerusalem Post» العبريّة)، نطالِعُ مقالًا لناشطٍ فلسطينيّ غِزّي اسمه (ح. هـ)، يوجّه فيه رسالة إلى الطّلبة المتظاهرين في الجامعات الأمريكيّة، ويرى فيه أنّهم «يُضرونَ القضيّة الفلسطينيّة» بهذا التّظاهر، وأنّهم (وخاصّة في جامعة كولومبيا) يردّدون عبارات «معادية للسّامية»، ناعتًا هذه التّظاهرات بـ«النفاق»؛ لأنّها لم تخرج عندما استولت حماس على غزّة، وبالتّالي فهدفُها كراهيّة اليهود لا إسنادُ الشّعب الفلسطينيّ على حدِّ تعبيره. وبقيَ على الأعلامِ الأمريكيّ أنْ يستضيفَ «محللًا سياسيًا»؛ يؤكّد أنّ تظاهرات الجامعات الأمريكيّة «ممولة» من جهةٍ معادية، كروسيا أو الصّين أو كوريا الشماليّة، وأنّ هدفها الحقيقيّ تضليل الرأي العامّ عمّا يرتكبه بوتين بأوكرانيا، أو ما ترتكبه إيران بحقِّ النّساء،... إلخ إلخ إلخ.
من جهةٍ أخيرةٍ رابعة، فإنّ نقطة الوعي والتّحول هذه، ستصيبُ (في مرحلةٍ قريبةٍ ما) الجيلَ الفلسطينيّ الجديد، أو ستسهمُ، في رأيي، ببلورة جيلٍ فلسطينيّ سيقودُ مرحلة قريبةً قادمة، سيتجاوز فيها التّصنم التاريخيّ في الممرِّ المؤقت، و«الاقتسام» الفلسطينيّ الذي أصبحَ مستحيلًا إنهاؤه قبل انتهاءِ المستفيدين منه، وسيضمُّ شبانًا انسلخوا عن أحزابِهم الميْتة، (كلّها)، لصالِحِ «وعي» فلسطينيّ جديد، وقرارٍ فلسطينيّ غير مرتهنٍ بأيّ طرف، وقلمٍ فلسطينيّ غير مستكتبٍ لأيّ أحد، و«دبلوماسيّة» فلسطينيّة قادرة على التأثير، ودولة فلسطينيّة «آمِنة» للفلسطينيين وليسَ لأعدائهم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد