الملك عبدالله الثاني: عبقري السياسة في عالم مائجٍ بالصراعات

mainThumb

16-09-2024 11:51 PM


عمّان- السّوسنة- خالد الطوالبة

في عالم تهيمن عليه الفوضى والصراعات المتشابكة، يظهر الملك عبدالله الثاني بن الحسين كقائد يمتلك قدرة استثنائية على الحفاظ على وسطية فريدة بين الأطراف المتنازعة. هو وريث لسلسلة من الحكمة السياسية التي تتجاوز مجرد السطحية في إدارة الأزمات، فهذه الحكمة عريقة بعمق التاريخ، تستمد جذورها من إرث هاشمي مليء بالذكاء السياسي الذي ترك بصماته على الأردن والمنطقة بأسرها. ورث الملك عبدالله الثاني هذه القدرة عن أبيه الملك الحسين بن طلال، وجده الملك عبدالله الأول، اللذين امتازا بذكاء سياسي حاد ومرونة خارقة في التعامل مع التحولات الكبرى في الإقليم والعالم.

ليس من السهل أن تجد قائداً قادراً على السير في خط رفيع بين الأطراف المتصارعة دون أن يسقط في حفرة الغلو أو التشدد، لكن الملك عبدالله الثاني استطاع ببراعة أن يتقن هذه اللعبة الصعبة، حتى أصبح النموذج الذي تراقبه العيون من كل حدب وصوب. كيف تمكن من ذلك؟ الجواب لا يكمن فقط في الدبلوماسية المحنكة أو الخطابات المؤثرة، بل في فهم عميق للتاريخ والجغرافيا والسياسة معاً.

عبقرية سياسية متوارثة عبر الأجيال

تعود عبقرية الملك عبدالله في إدارة النزاعات إلى تاريخ طويل من الممارسة السياسية التي تطورت عبر أجيال. فوالده الملك الحسين كان نموذجًا في فن الوساطة والقدرة على تجاوز الأزمات بحنكة ودبلوماسية فريدة، سواء كانت تلك الأزمات داخلية أو على الساحة الدولية. لقد رسخ الملك الحسين مفاهيم الثبات في مواجهة العواصف السياسية والقدرة على تحييد الأزمات دون الانزلاق في فخ الغلو. ومع ذلك، لم يقف الملك عبدالله عند إرث والده فقط، بل استطاع أن يطوره ليواكب تحديات عالم اليوم الذي يختلف في تركيبته عن عقود مضت.

منذ أن تسلم الملك عبدالله مقاليد الحكم، كان أمامه تحديات هائلة لم تعجز كثيراً من القادة فقط، بل أسقطت أنظمة سياسية بأكملها. الحروب في العراق، النزاعات في سوريا، التوترات في فلسطين، والربيع العربي الذي زعزع الاستقرار في الشرق الأوسط، كلها أزمات واجهها بحكمة وتروٍّ، وساهم في التخفيف من آثارها على الأردن والمنطقة. في كل أزمة، لم يكن الملك عبدالله مجرد متفرج؛ بل كان لاعباً رئيسياً في تقديم الحلول، وتحقيق التوازن بين الأطراف المتصارعة.

ملك في قلب العاصفة.. بلا انحناء

أحد أبرز أمثلة هذا الذكاء السياسي هو طريقة تعامل الملك مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وخاصة مع أزمة غزة التي اشتعلت في أكثر من مناسبة وأحرقت الأفق السياسي للعديد من القادة في المنطقة. في هذا السياق، برزت وساطات الملك عبدالله كركيزة للحلول الواقعية، بعيداً عن الصخب الإعلامي أو الرهانات الآنية. يجيد الملك القراءة المتأنية لطبائع النزاع، حيث يرى الأمور من زوايا متعددة، ويخلق جسوراً للاتصال حينما تنهار كل القنوات الأخرى.

دور الأردن في الحفاظ على المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس يعكس التزام الملك عبدالله بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين، ليس من منطلق سياسي ضيق، بل من منظور تاريخي وعقائدي عميق. ما يميز هذا الالتزام أنه ليس مجرد شعارات، بل خطوات عملية تُترجم على الأرض، سواء من خلال المساعدات الإنسانية المتواصلة أو الدعم السياسي في الساحات الدولية.

في غزة، على سبيل المثال، لم يكن دور الملك عبدالله في الوساطة يقتصر على جولات دبلوماسية بين القادة، بل تجسد على الأرض من خلال توفير المساعدات الطبية والغذائية العاجلة، وفتح المستشفيات الأردنية لعلاج المصابين. لقد نجح في كسب ثقة شعبه وشعوب المنطقة عبر مسارات إنسانية تتماشى مع دوره السياسي، محققاً توازنًا نادرًا بين الانحياز لمبادئ العدالة والسلام، والحفاظ على مصالح الدولة الأردنية.

الحلول على الأرض: جلسات سلام ومفاوضات مفتوحة

ليس غريباً أن تجد الملك عبدالله دومًا في طليعة الجهود المبذولة لإيجاد حلول سياسية للنزاعات، سواء كانت تلك النزاعات في فلسطين أو أي منطقة أخرى في الشرق الأوسط. لقد عمل باستمرار على فتح قنوات للحوار والمفاوضات حتى مع الأطراف الأكثر تعقيدًا، واضعاً مصالح الأردن في مقدمة أولوياته، لكنه لم يتخلَ أبداً عن السعي لتحقيق السلام.

وربما أكثر ما يميزه هو قدرته على البقاء وسيطاً مقبولاً من جميع الأطراف، حيث يحافظ على مسافة آمنة من الانحياز، مما يجعله أكثر تأثيراً وفاعلية. في كل أزمة، كان الملك يجلس مع القادة، يضع الحقائق على الطاولة، ويعرض حلولاً عملية قائمة على الواقعية السياسية دون تفريط في الحقوق أو تجاوز للأخلاق السياسية.

الوساطة والاعتدال: ثقة عالمية

ما جعل الملك عبدالله قادراً على التأثير في المشهد الدولي هو ليس فقط دوره الإقليمي، بل أيضاً ثقة القوى الكبرى به كوسيط معتدل. فقد استطاع الملك بناء سمعة دولية كصوت للعقلانية والاعتدال في منطقة تعج بالتطرف والانقسامات. وهذا ما دفع دول العالم إلى النظر إلى الأردن كعنصر استقرار وسلام في منطقة الشرق الأوسط.

من خلال الاجتماعات الدولية ومؤتمرات السلام، ظهر الملك عبدالله كمفاوض ماهر يعرف كيف يستخدم لغة الدبلوماسية ليبني جسور التفاهم بين القوى الكبرى والأطراف الإقليمية المتصارعة. وأصبح دوره في الوساطات، سواء في القضية الفلسطينية أو غيرها من النزاعات الإقليمية، محورياً لتحقيق التوازن بين مختلف الأطراف.

الحكمة الموروثة والتطوير المستمر

من المستحيل الحديث عن الملك عبدالله دون الإشارة إلى إرث الحكمة السياسية الذي ورثه عن أبيه وجده، لكنه لم يقف عند حدود الإرث، بل استطاع أن يطوّره ويحدثه بما يتناسب مع تحديات القرن الواحد والعشرين. كانت هذه الحكمة واضحة في كل خطوة اتخذها، سواء في تعزيز الديمقراطية الداخلية في الأردن، أو في معالجة الأزمات الاقتصادية التي واجهتها البلاد.

باستخدام أدوات مثل التحاور مع مختلف القوى السياسية والاجتماعية، والانخراط في مبادرات إصلاحية، استطاع الملك عبدالله أن يصنع نموذجاً فريداً في منطقة تعاني من الاضطرابات السياسية. وفي كل مرة يظهر فيها على الساحة الدولية، يؤكد قدرته على قيادة دولة وسط الأمواج العاتية دون أن يغرق، بل يخرج منها أكثر قوة وثباتًا.

الملك عبدالله الثاني هو قائد نادر في زمن تعصف به الرياح السياسية العاتية. إنه رجل الوسطية والتوازن، الذي يمتلك الحكمة السياسية المتجذرة في التاريخ والمرونة المطلوبة للتعامل مع تحديات الحاضر. من خلال وساطاته وحنكته السياسية، استطاع أن يجعل من الأردن قاعدة للاستقرار الإقليمي، وبوابة لحلول عملية في عالم معقد. قدرة الملك عبدالله على تحقيق هذا التوازن المعقد بين الداخل والخارج، بين المصالح الوطنية والقضايا الإقليمية، تضعه في مكانة استثنائية بين قادة العالم، وتجعل من الأردن نموذجاً في إدارة الأزمات بحكمة واعتدال.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد