الاتحاد اللوجستي العربي

mainThumb

26-06-2025 12:08 AM

في ظل الأزمات العالمية المتكررة، من جائحة كورونا إلى الحرب في أوكرانيا، ثم التوترات الجيوسياسية في الخليج، بات من الواضح أن أمن الإمدادات ليس تفصيلًا تقنيًا بل مسألة سيادة اقتصادية. الدول التي تدير سلاسل التوريد بذكاء تمتلك القدرة على حماية أمنها الغذائي والصناعي وتخفيف صدمات السوق. وفي السياق العربي، يطرح سؤال استراتيجي نفسه بإلحاح: هل يمكن إنشاء منطقة لوجستية عربية مشتركة تُدار وفق رؤية موحدة، وتؤسس لسوق عربية مرنة وآمنة؟

الوضع الحالي لسلاسل الإمداد في العالم العربي يكشف عن تشتت كبير. فبحسب تقرير البنك الإسلامي للتنمية لعام 2023، تبلغ تكلفة النقل والتجارة البينية العربية نحو ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي، بسبب ضعف الربط البري، وتضارب الإجراءات الجمركية، ونقص الكفاءة في الموانئ. كما تشير بيانات الاتحاد العربي للنقل إلى أن 40% من الشاحنات العربية تقف لأكثر من 24 ساعة عند المعابر الحدودية بسبب الإجراءات الورقية والتشريعات المتضاربة.

بالمقارنة، فإن الاتحاد الأوروبي أنشأ منذ سنوات سوقًا موحدة للطاقة والنقل خفّضت تكاليف الإمداد بنسبة تفوق 25% ورفعت القدرة التنافسية للصناعات الأوروبية. العرب بدورهم حاولوا سابقًا عبر "اتفاقية السوق العربية المشتركة" منذ الستينيات، لكن المشروع فشل بسبب غياب آلية تنفيذية، وتضارب السياسات الوطنية، وعدم وجود تمويل مستدام أو هيئة متابعة. لذلك، فإن أي مبادرة لوجستية اليوم يجب أن تتجنب هذه الأخطاء بتدرج واقعي، وهيكل مؤسسي مرن، وارتباط مباشر بالمصالح الاقتصادية لكل دولة.

تقوم فكرة الاتحاد اللوجستي العربي على تأسيس منظومة متكاملة من التشريعات والبنى التحتية، تُدار عبر هيئة عربية دائمة تعنى بالربط الجمركي، وتوحيد المواصفات الفنية، وتسهيل عبور البضائع والسلع والخدمات بين الدول العربية دون عراقيل. ويمكن أن تنطلق هذه الهيئة بمبدأ "الدول المتوافقة أولًا"، بحيث يبدأ الربط بين 5 أو 6 دول جاهزة (مثل السعودية، والإمارات، ومصر، والأردن، والعراق، والمغرب)، ثم تتوسع تدريجيًا نحو بقية الدول.

من الناحية العملية، هناك نماذج قيد التنفيذ تشكل نواة واعدة. مشروع الربط الخليجي البري من الكويت إلى عُمان يهدف إلى تسريع حركة الشاحنات. مشروع "الشام الجديد" بين العراق والأردن ومصر يُخطط لإنشاء شبكة لوجستية وصناعية مشتركة. كما يسهم الاتفاق الأردني–السعودي الأخير لتفعيل المنطقة الحرة بين العمري والحديثة في تسهيل مرور البضائع وفتح آفاق جديدة أمام التكامل الإقليمي.

البنية التحتية العربية تحتاج إلى قفزة نوعية، لكن الأساس موجود. هناك 23 ميناءً عربيًا استراتيجيًا على البحرين الأحمر والمتوسط والخليج العربي، ويُقدّر أن تحسين التنسيق بينها يمكن أن يرفع الكفاءة بنسبة 35% بحسب تقرير الأونكتاد لعام 2022. كما أن ربط السكك الحديدية من الخليج إلى الشام ومصر سيقلل مدة الشحن من خمسة أيام إلى أقل من 36 ساعة، وهو ما سيمنح الصناعات العربية أفضلية زمنية في الوصول إلى الأسواق.

أما من حيث آليات التمويل، فيمكن الاستفادة من أدوات تمويل ميسرة عبر مؤسسات قائمة مثل صندوق النقد العربي، البنك الإسلامي للتنمية، الصناديق السيادية الخليجية، إضافة إلى الشراكة مع القطاع الخاص في مشاريع BOT (بناء–تشغيل–نقل). ويمكن تخصيص جزء من عوائد الموانئ أو الضرائب الجمركية لتمويل صندوق لوجستي إقليمي مستقل.

من الفوائد الاقتصادية المباشرة لإنشاء سوق لوجستية عربية، خفض تكاليف الإمداد بنسبة تصل إلى 30%، وتسريع زمن التسليم بنسبة 40%، وزيادة التجارة البينية التي لا تتجاوز حاليًا 10% من إجمالي التجارة العربية، بينما تصل في الاتحاد الأوروبي إلى 65%. هذا الاتحاد اللوجستي يمكن أن يكون نقطة الانطلاق الحقيقية نحو سوق عربية اقتصادية موحدة.

لكن هذا المشروع لا يكتمل دون رقمنة الإجراءات، فالحلول التكنولوجية مثل النافذة الواحدة، والجمارك الذكية، والتتبع اللحظي، يمكن أن تزيل معظم العوائق اللوجستية. المغرب والإمارات نموذجان متقدمان في هذا المجال، ويمكن نقل تجربتهما لبقية الدول. كما يجب تبني معايير موحدة في التخزين والنقل لتقليل الفاقد والتالف، والذي يصل في بعض السلع الغذائية إلى 20% قبل وصولها للمستهلك.

إنشاء هذه السوق الموحدة يحتاج إلى إرادة سياسية قبل الموارد المالية. المطلوب هو هيئة عربية لإدارة اللوجستيات وسلاسل الإمداد، تحت مظلة الجامعة العربية أو عبر شراكة مع مؤسسات مثل صندوق النقد العربي والبنك الإسلامي للتنمية. هذه الهيئة تضع خريطة طريق، وتشرف على التنفيذ، وتقدم الدعم الفني والتقني للدول الأعضاء، وتكون بمثابة غرفة عمليات في أوقات الأزمات، مع آليات واضحة للرقابة والتحكيم.

في النهاية، لا يمكن أن يبقى العالم العربي رهينة طرق تصدير محدودة، أو موانئ معزولة، أو معابر مزدحمة. الاضطرابات العالمية المتكررة أظهرت أن من لا يتحكم في سلاسله اللوجستية لا يستطيع أن يتحكم في اقتصاده. وإن كانت الوحدة السياسية لا تزال بعيدة المنال، فإن الاتحاد اللوجستي خطوة واقعية، قابلة للتنفيذ، ومفتاح للأمن الاقتصادي العربي في القرن الحادي والعشرين.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد