كاهنة الخراب

mainThumb

01-05-2025 02:44 PM

كان للحرب في الإسلام أخلاقها، فأخلاق الفرسان أمضى من سيوفهم. وكان النبي ﷺ يوصي أصحابه رضي الله عنهم قبل الخروج للحرب قائلاً: ‏«اغزوا بسم الله، في سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء‏».
مثّلت هذه الأخلاق الإسلامية النبيلة فرقًا جوهريًا بين فرسان الإسلام وفرسان الكفر في سوح الوغى. فإذا ما غزا فرسان الكفر بلدًا، دمّروا الحجر والشجر وقتلوا البشر، دون تمييز بين الفرسان المقاتلين والضعفاء، من شيوخ وأطفال ونساء.
ومن أمثلة الفساد الأخلاقي لفرسان الكفر حكاية كاهنة البربر وقائدة جيوشهم التي دمرت كل بلاد شمال إفريقيا لكي تثني جيش الفتح الإسلامي عنها، معتقدة أن المسلمين جاؤوا لفتح هذه البلاد، طمعاً في المال والجوهر.
مع أن أحداث حكايتنا هذه وقعت خارج حدود جزيرة الأندلس، ومع أن اهتمامي منصب على سرد حكاياتها فقط كباحث في التاريخ الأندلسي، إلا أنني سأسرد هذه الحكاية الجميلة لعدة أسباب جوهرية تتعلق بفتح الأندلس، وهي:
أولاً: أن هذه الحكاية وقعت في بلاد مجاورة للأندلس.
ثانياً: أن وقوعها فتح الباب على مصراعيه لجيوش الفتح الإسلامي لعبور البحر نحو الأندلس.
ثالثاً: أن وقوعها كان السبب الرئيسي في دخول أعداد كبيرة من أهل هذه البلاد في الإسلام، مما زاد من أعداد جنود الإسلام المشاركين في فتح الأندلس.
روى ابن عذاري المراكشي: أن القائد المجاهد حسان بن النعمان لما فتح القيروان أقام بها أياماً ثم سأل أهلها عمن بقي من أعظم ملوك أفريقية ليسير إليه فيقاتله ويقتله أو يُسلم، فدلوه على امرأة بجبل أوراس - وهي سلسلة جبال في الجزائر - يقال لها الكاهنة وجميع من بأفريقية من الروم والبربر خائفون منها ومطيعون لها، (فإن قتلَها دان له المغرب كله ولم يبقى له مضاد ولا معاند) فدخل بجيوشه إليها، وبلغ الكاهنة خبره فرحلت من الجبل على رأس جيش لا يُعد ولا يُحصى، وسبقته إلى مدينة باغاية - وهي مدينة في الجزائر - فأخرجتْ منها الروم وهدمتها، وظنت أن حسان بن النعمان يريدها ليتحصن بها، فوصل خبرها إلى حسان فنزل بوادي مسكيانة - وهو وادي في ولاية أم البواقي الجزائرية -، فنزلت الكاهنة الوادي المذكور بجيشها مشياً على الأقدام، فكان هو يشرب من أعلى الوادي وهي من أسفله، فلما توافت الخيل دنا بعضهم من بعض، فأبى حسان أن يقاتلها آخر النهار فبات الفريقان ليلتهم على سروجهم فلما أصبح الصباح التقى الجمعان فتقاتلوا قتالاً لم يُسمع بمثله، وصبر الفريقان صبراً لم ينتهي أحد إليه، إلى أن انهزم حسان بن النعمان ومن معه من المسلمين وقتلتْ الكاهنة العرب قتلاً ذريعاً، وأسرتْ ثمانين رجلاً من أعيان أصحابه، وسُمي ذلك الوادي وادي العذارى، واتبعته الكاهنة حتى خرج من مدينة قابس، فكتب حسان إلى أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان يخبره بخبرها، فعاد له جواب أمير المؤمنين يأمره بأن يقيم حيثما وافاه الجواب، فورد عليه في مدينة برقة فأقام بها وبنى هنالك قصورا تسمى إلى الآن بقصور حسان.
وملكت الكاهنة المغرب كله بعد حسان خمس سنين، فلما رأت إبطاء العرب عنها قالت لقومها البربر: إن العرب إنما يطلبون من أفريقية المدائن والذهب والفضة، ونحن إنما نريد منها المزارع والمراعي فلا أرى لكم إلا خراب بلاد أفريقية كلها حتى ييأس العرب منها، فلا يكون لهم رجوع إليها إلى آخر الدهر.
فوجهت عسكرها إلى كل ناحية يقطعون الشجر ويهدمون الحصون، فذكروا أن أفريقية كانت ظلاً واحداً من طرابلس إلى طنجة وقرى متصلة ومدائن منظمة حتى لم يكن في أقاليم الدنيا أكثر خيرات ولا أوصل بركات ولا أكثر مدائن وحصوناً من إقليم أفريقيا والمغرب مسيرة ألف ميل في مثله، فخرّبت الكاهنة ذلك كله، وخرج يومئذ من النصارى والأفارقة خلق كثير يستغيثون بما نزل بهم من الكاهنة، فتفرقوا على الأندلس وسائر الجزر البحرية.
وكانت الكاهنة لما أسرت ثمانين رجلاً من أصحاب حسان أحسنت إليهم وأرسلتْ بهم إلى حسان، وحبست عندها القائد المسلم خالد بن يزيد العبسي، فقالت له يوماً: (ما رأيتُ في الرجال أجمل منك ولا أشجع وأنا أريد أن أرضعك فتكون أخاً لولدي)، وكان لها ابنان أحدهما بربري والآخر يوناني، وقالت له (نحن جماعة البربر لنا رضاع: إذا فعلناه نتوارث به) فعمدتْ إلى دقيق الشعير فلثته بزيت وجعلته على ثديها ودعت ولديها وقالت (كلا معه على ثديي) ففعلا فقالت (قد صرتم اخوة).
ثم وفدتْ على معسكر حسان فرسان العرب ورجالها من قبل أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان، فدعا حسان عند ذلك برجل وبعثه إلى خالد بن يزيد بكتاب. فقرأه وكتب في ظهره (إن البربر متفرقون، لا نظام لهم ولا رأي عندهم فأطووا المراحل – أي البلاد – وجدوا في السير)، ووضع الكتاب في خبزة وجعلها زاداً للرجل ووجهه بها إلى الأمير حسان فلم يغب عن خالد بن يزيد إلا يسيراً، حتى خرجت الكاهنة ناثرة شعرها تضرب صدرها وتقول (يا ويلكم يا معشر البربر ذهب ملككم فيما يأكله الناس)، فافترقوا يميناً وشمالاً يطلبون الرجل فحماه الله تعالى حتى وصل معسكر حسان، فكسر الخبزة وقرأ الكتاب الذي كتبه إليه خالد فوجده قد أفسدته النار فقال له حسان: (ارجع إليه) فقال الرجل: (إن المرأة كاهنة: لا يخفى عليها شيء من هذا) فرحل حسان بجنوده إليه وبلغ الكاهنة خبره فرحلت من جبل أوراس في خلق عظيم، وتوجه إليها حسان، فلما كان الليل قالت لبنيها: (إني مقتولة) وأعلمتهم أن رأسها مقطوع موضوعاً بين يدي ملك العرب الأعظم الذي بعث حسان لقتالها، فقال لها خالد: (فارحلي بنا وخلي له عن البلاد) فامتنعت ورأته عاراً لقومها، فقال لها خالد وأولادها (فما نحن صانعون بعدك؟) فقالت: أما أنت يا خالد فستُدرك مُلكاً عظيماً عند ملك العرب الأعظم - تعني الخليفة عبدالملك بن مروان -، وأما أولادي فيُدركون سلطاناً مع هذا الرجل الذي يقتلني ويعقدون للبربر غرائم - أي ألوية في جيشه - ثم قالت: اركبوا واستأمنوا إليه - أي اطلبوا منه الأمان -، فركب خالد وأولادها في الليل وتوجهوا إلى حسان فأخبره خالد بخبرها وأنها علمتْ قتلها، وقد وجهت إليك بأولادها فوكل بهما من يحفظهما، وقدم خالد بجيش على أعنة الخيل، وخرجت الكاهنة ناشرة شعرها فقالت: انظروا ما دهمكم فأني مقتولة ثم إلتحم القتال واشتدت الحرب، فانهزمت الكاهنة واتبعها حسان حتى قتلها.
وكان مع حسان جماعة من البربر استأمنوا إليه فلم يقبل أمانهم إلا أن يعطوه من قبائلهم اثني عشر ألفاً يُجاهدون مع العرب فأجابوه وأسلموا على يديه فعقد لولدي الكاهنة لكل واحد منهما على ستة آلاف فارس وأخرجهم مع العرب يجولون في المغرب يُقاتلون الروم ومَن كَفر من البربر.
وانصرف حسان إلى مدينة القيروان بعد ما حسن إسلام البربر وطاعتهم وذلك في شهر رمضان سنة ٨٣ للهجرة، وفي هذه السنة استقامت بلاد أفريقية لحسان بن النعمان، فدّون الدواوين، وصالح عجم أفريقية على الخراج، وكتبه على من أقام معهم على دين النصرانية. وأقام حسان بعد قتل الكاهنة لا يغزو أحداً ولا ينازعه أحداً، ثم عزله عبد العزيز بن مروان الوالي على مصر، وكان الوالي على مصر يُولي على أفريقية، فعزل حساناً وأمره بالقدوم عليه، فعلم حسان ما أراد عبدالعزيز بن مروان أخو الخليفة عبدالملك، فعمد إلى الجوهر والذهب والفضة فجعله في قرب الماء وأظهر ما سوى ذلك من الأمتعة وأنواع الدواب والرقيق وسائر أنواع الأموال، فلما قدم على أمير مصر عبد العزيز بن مروان أهدى إليه مائتي جارية من بنات ملوك الروم والبربر فسلبه عبدالعزيز جميع ما كان معه من الخيل والأحمال والأمتعة والوصائف والوصفان، ورحل حسان بالأثقال التي بقيت له حتى قدم على الوليد فشكا له ما صنع به عبدالعزيز فغضب الوليد على عمه عبد العزيز، ثم قال حسان لمن معه: (ائتوني بقرب الماء) ففرّغ منها من الذهب والفضة والجوهر والياقوت ما استعظمه الوليد وعجب من أمر حسان، فقال له الوليد: (جزاك الله خيرا يا حسان) فقال: (يا أمير المؤمنين إنما خرجت مجاهداً في سبيل الله وليس مثلى يخون الله والخليفة)، فقال له الوليد: (أنا أردك إلى عملك وأحسن إليك وأثق بك) فحلف حسان (لا أُولي لبني أمية أبداً)، فغضب الوليد بن عبد الملك على عمه عبد العزيز. وكان حسان يُسمى الشيخ الأمين، وغزواته لم تنضبط بتاريخ محقق ولا فتحه لقرطاجنة وتونس ولا قتله للكاهنة، وذكر ابن قطان أن عزل حسان وولاية موسى بن نصير كان من قبل عبدالعزيز بن مروان دون أمر أخيه عبد الملك ولا مشورته. [١]

_______

[١] البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب / الجزء ١ / ص ٣٥ – ٣٩.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد