روحي كانت في معزل عن جسدي

mainThumb

11-05-2025 06:21 PM

لم أكن أنا الذي يمشي. كانت قدماي ترشدانني، لا أعلم بأي دافع، لكن المهم أني كنت أمضي في وجهتهما، بينما روح الكمان تمتطي كتفي الأيسر.

مررتُ بزقاقٍ تفوح منه رائحة الخمر، فصاح أحدهم من بين الجموع مشيرًا إلى جليسه:
"تعالَ يا مايسترو، اعزف لنا، وهذا سيرقص!"
ردّ الآخر:
"لا، لن أرقص. أنت ذو خصر سمين، فارقص أنت!"

مضيتُ، وتركتهم يتجادلون فيمن سيرقص على مقطوعاتي... التي لن أعزفها لهم.

شارعٌ يلفظني، وآخر يتلقّفني، حتى وجدتُ نفسي جالسًا على العشب. لا أعلم لماذا تركت المقاعد وجلست هناك.
وضعتُ الكمان أمامي، وأخذتُ أحرّك أصابعي... حضنت الكمان واستأنفت العزف، متجاهلًا ثناء المارة وسخرية بعضهم.

كنت أعزف كأنني كائن في عالمٍ آخر.
أقول في جنّة، ولكن ربما سيكفّرني بعضكم...
لا أعلم كيف جلس بجانبي حبيبان، على بعد متر مني، وبينهما ربع متر فقط. كان عليهما الخجل... خجل اللقاء الأول.

رفعتُ وتيرة العزف، لا من أجلهما، بل من أجلي.
كنتُ أريد أن أتطهّر، أن أغتسل من الآخرين... ومني.
شعرتُ بدبيب النمل على جلدي، وأناملي تعزف، بينما روحي تظلُّ في معزلٍ عن هذا الجسد الذي أقطنه.

ما عاد الناس هم الناس، ولا العشب هو العشب.
كل شيء بدا مختلفًا.

ثم... صوت طبلٍ ينسجم تمامًا مع إيقاعي.
استدرتُ يساري، فرأيتها... حسناء ذات وجهٍ ملائكي.
كأنها حدج من الحسنوات، أو كمضرحيٍّ يحلّق في الأعالي.

ابتسمت لي، فابتسمتُ لها.
واصلتُ العزف، مؤجلًا مهمة التعرّف عليها إلى ما بعد.
كنتُ مستمرًا في نشوتي...
لو أن الحياة مقطوعة لا نهاية لها، لعزفتُ إلى الأبد. عزفٌ سرمديّ، حتى تتورّم أناملي أو تحترق أو تتقطع... أعزف فقط.

الحبيبان اقتربا من بعضهما، والتقت أيديهما.
كانا في عالمٍ آخر... نقلهما العزف إلى فضاء مختلف.

اشتدّ العزف أكثر.
مالت الحبيبة بعنقها على كتف الحبيب، وخفّضت صاحبة الطبل الإيقاع.
رمقتها بنظرة حادة... لكنها ابتسمت أكثر، وخفّضت الوتيرة مجددًا.
نظرتُ إليها من جديد، بنظرة أشدّ، فجأة...

ضربة... تلتها ضربة.
ويداَي اللتان كانتا في معزل عن جسدي، أخذتا تعزفان بعنفٍ كبير.
تعانق الحبيبان، انجلى الخجل، وخرجت الصورة من الصورة.

أنهيتُ العزف، والتفتُّ إلى صاحبة الطبل... فلم تكن هناك.
سألتُ الحبيبين عنها، لكنهما لم يجيبا سوى بكلمات إطراء.

تأكدتُ أن "الصورة خرجت من الصورة".
سأعزف مرة أخرى... حتى أعتذر لها.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد