أين وصفي التل في جامعاتنا

mainThumb

21-05-2025 01:40 AM

في الجامعات العريقة، تُعدّ الكراسي الأكاديمية محطات مضيئة في مسيرة البحث العلمي والإبداع المعرفي، حيث تؤسس لتقاليد أكاديمية متجذّرة، وتُعنى بإحياء فكر القامات الوطنية والفكرية، وتحفيز الباحثين على مواصلة البناء على إرثهم. الكرسي الأكاديمي ليس مجرّد تسمية أو منصب شرفي؛ بل هو مركز حيوي يعزز التخصص، ويدفع عجلة البحث في مجالات دقيقة، ويمنح الشخصية المُكرَّمة حياة معرفية متجددة في ذاكرة الأجيال.

غير أن المشهد في الجامعات الأردنية يبدو مختلفًا. فمع كل التقدير للكراسي التي أُنشئت باسم شخصيات علمية أو ثقافية أو حتى سياسية، إلا أن ما يلفت النظر هو الغياب الصارخ لكرسي أكاديمي يحمل اسم الشهيد وصفي التل، الرجل الذي لم يكن فقط رئيسًا للوزراء، بل مشروعًا وطنيًا متكاملًا جسّده فكرًا وممارسةً واستشهادًا.

وصفي التل لم يكن رجل دولة تقليديًا، بل كان صاحب رؤية وطنية صلبة، استندت إلى ثلاثية: الاستقلال السياسي، والاعتماد الاقتصادي، والكرامة الوطنية. كان يؤمن بأن الأردن لا يُبنى بالوصايا الخارجية، ولا بالاستكانة، بل بالعمل، والعرق، والدم إن اقتضى الأمر. وقد اقتضى الأمر، فدفع حياته ثمنًا لمشروع وطني آمن به حتى آخر لحظة.

ومن هنا، نتساءل وبمرارة: لماذا لا يوجد حتى اليوم كرسي أكاديمي يحمل اسم وصفي التل في أي من جامعاتنا؟ كيف يمكن أن تُهمل جامعات الوطن أحد أبرز رجالاته، بينما تُمنح كراسٍ بأسماء شخصيات لم تقدّم للأردن عُشر ما قدمه وصفي فكرًا وسلوكًا وتضحية؟ بل إن بعض هذه الكراسي تكاد تخلو من أي نشاط بحثي جاد، وتُستخدم أحيانًا للوجاهة أو المجاملة.

كرسي وصفي التل للدراسات الأردنية، إن أُنشئ، لن يكون مجرد وفاء لرجل رحل، بل خطوة نحو إعادة قراءة سيرته وفكره ومشروعه الوطني، بمنهج علمي أكاديمي، بعيدًا عن القداسة أو التسطيح. سيكون منصة لتأريخ مرحلة مفصلية من عمر الدولة، وفرصة لطرح الأسئلة العميقة حول الوطنية، والهوية، والاستقلال، والعلاقة مع الجوار، وطبيعة الدولة التي حلم بها وصفي التل، وسُفك دمه من أجلها.

كما أن إنشاء هذا الكرسي سيشكل رافعة لدراسات الدولة الأردنية وتطورها السياسي والإداري والاقتصادي، وسيسهم في بناء أرشيف معرفي ضخم عن هذه الشخصية وعن الحقبة التي عاشها. وسيفتح المجال أمام الباحثين والطلبة للخوض في تحليل السياسات التي تبناها وصفي، وموقفه من القضايا القومية، وموقفه الحازم من الفساد، والعلاقة بين المدني والعسكري، والمجتمع والدولة.

إن الدعوة إلى تأسيس كرسي أكاديمي باسم وصفي التل، ليست دعوة عاطفية أو مجرد وفاء رمزي، بل هي دعوة لاستعادة المعنى الحقيقي للكراسي الأكاديمية، وتحميلها دورها الريادي في إعادة إنتاج المعرفة الوطنية. كما أنها دعوة لرؤساء الجامعات الأردنية ليعيدوا النظر في أولوياتهم البحثية، ويضعوا في الاعتبار أن من حق الأجيال الجديدة أن تتعرف على رموزها، لا من خلال الحكايات الشعبية فقط، بل عبر دراسات معمقة تُدرّس وتُناقش وتُبنى عليها رؤى مستقبلية.

ختامًا، إنّ وصفي التل لا يحتاج لمن يمجّده، بل من يُعيد قراءته. ولا يحتاج لمن يرفع صوره في المناسبات، بل من يُحيي فكره في القاعات الأكاديمية. وإنّ إنشاء كرسي وصفي التل للدراسات الأردنية هو أقل ما يمكن أن تقدمه جامعاتنا لرجلٍ خَطّ اسمه بالدم في سجل الأردن الخالد.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد