المراهقة الإدارية

mainThumb

13-10-2025 01:44 PM

أتذكر تمامًا تلك اللحظة أثناء مناقشة أحد فصول أطروحتي للدكتوراه مع مشرفتي الأكاديمية في بريطانيا، حين توقفت فجأة عند مصطلح كتبته بخط واضح في منتصف الصفحة المراهقة الإدارية. نظرت إليّ بدهشة ممزوجة بالإعجاب وقالت: لم أسمع بهذا التعبير من قبل، لكنه يبدو خطيرًا وعميقًا في الوقت نفسه! ابتسمتُ وقلت لها: هو بالضبط ما يحدث عندما تتصرف المؤسسات كما يتصرف المراهقون، اندفاع بلا وعي، غرور بلا خبرة، وشعور زائف بالقوة والخلود.
ذلك الحوار البسيط كان الشرارة التي جعلتني أؤمن أن هذا المصطلح لا يصف مجرد حالة عابرة، بل يعبّر عن مرحلة ذهنية وتنظيمية تمر بها بعض الإدارات حين تفقد اتزانها بين الطموح والحكمة، بين الرغبة في التميز والقدرة على تحمّل تبعات القرار. فالمراهقة الإدارية ليست مرتبطة بعمر المؤسسة ولا بعدد موظفيها، بل بنمط تفكير قادتها وسلوكهم في مواجهة النمو والتحديات.
في عالم الإدارة، كما في حياة الإنسان، هناك طفولة، مراهقة، ثم نضج. الطفولة الإدارية هي مرحلة البدايات التي تتسم بالحذر والتجريب، أما المراهقة فهي مرحلة الاندفاع المغرور، حين تظن الإدارة أنها بلغت الكمال وأنها قادرة على تجاوز القواعد والأرقام والأنظمة. في تلك المرحلة تبدأ القرارات العاطفية بالظهور، وتُقصى الأصوات الناصحة، ويتحوّل الفريق من وحدة عمل إلى دائرة إعجاب متبادل تدور حول شخص المدير أو حول فكرة متضخمة بلا رؤية واضحة.
ولعل التاريخ الإداري الحديث حافل بالأمثلة، فمثلا عملاق الطاقة شركة إنرون الأميركية، كانت تُقدّم للعالم نموذجًا في الإبداع والطموح، سقطت سقوطًا مدويًا بعد أن أصيبت بالغرور المؤسسي. أرادت أن تُظهر دائمًا صورة مثالية أمام الأسواق والمستثمرين، فبدأت بتزييف بياناتها المالية وتجميل خسائرها بطرق مبتكره. تجاهلت كل الأصوات التي نبهت إلى الخطر، وكأنها مراهق يرفض النصيحة، حتى انهار كل شيء في لحظة. ضاعت مليارات الدولارات، وتحوّل النجاح الأسطوري إلى فضيحة مالية لا تزال تُدرّس في كليات الإدارة حتى اليوم.
وإذا انتقلنا إلى نوكيا، سنجد وجهًا آخر للمراهقة الإدارية، وجهًا أكثر هدوءً لكنه لا يقل خطورة. في ذروة نجاحها، حين كانت تسيطر على سوق الهواتف المحمولة بلا منافس، تجاهلت التحولات التقنية التي كانت تلوح في الأفق. لم تستمع لفرقها الشابة التي كانت تحذر من الثورة القادمة في الهواتف الذكية. لقد أصيبت نوكيا بمراهقة الغرور الهادئ، ذلك النوع الذي يرفض التغيير بدعوى "أننا الأفضل". وعندما استيقظت من غفلتها، كان قطار الابتكار قد غادر المحطة، وتحولت من عملاق تكنولوجي إلى ذكرى في أرشيف الصناعة.
وفي السنوات الأخيرة، عشنا مثالاً آخر أكثر صخبًا مع شركةWeWork، التي بدأت بفكرة مبتكرة لمكاتب العمل المشتركة، ثم تحولت إلى فوضى إدارية تحت شعار الحرية والإبداع. مؤسسها تصرف كما لو كانت الشركة ملكًا شخصيًا له، أنفق ببذخ واتخذ قرارات متهورة بلا دراسة، واعتبر أن الحماسة وحدها كافية لصناعة النجاح. لكنه نسي أن المؤسسات لا تُدار بالعاطفة، وأن الحرية الإدارية دون ضوابط قد تتحول إلى فوضى مدمّرة. وحين جاء وقت الحقيقة، انهارت الشركة قبل إدراجها في البورصة، تاركة خلفها درسًا بليغًا في حدود "الإلهام غير المنضبط".
هذه النماذج ليست بعيدة عنا، فالمراهقة الإدارية نراها كثيرا في مؤسساتنا المحلية، الحكومية منها والخاصة، حين تُتخذ القرارات بدافع الانفعال لا التحليل، وحين تتبدل الاستراتيجيات مع كل تغيير في القيادة، أو حين تُطلق المبادرات دون دراسة، فقط لتسجيل حضور إعلامي مؤقت. نراها في الاجتماعات التي تتحول إلى استعراض للسلطة لا إلى تبادل للرأي، وفي ثقافة العمل التي تخلط بين الولاء للشخص والالتزام بالمؤسسة.
ولأن المراهقة لا تدوم، فإن علاجها في المؤسسات لا يكون بالعقاب أو بالقرارات الانفعالية، بل بالانتقال إلى مرحلة النضج الإداري، وهذا النضج لا يتحقق إلا بالحوكمة الحقيقية، والشفافية في المسؤوليات، والاستماع لأصحاب الخبرة في الميدان، وتبنّي ثقافة التعلّم المستمر. فالمؤسسة الناضجة لا تخاف من النقد، ولا تستهين بالأخطاء، ولا تركض خلف الأضواء، بل تبحث عن التوازن بين الجرأة والانضباط، وبين الطموح والحذر.
ربما كانت مشرفتي البريطانية محقّة حين قالت إن مصطلح "المراهقة الإدارية" يثير الإعجاب والاستنكار معًا. الإعجاب لأنه يسلّط الضوء على منطقة ظلّ طالما أغفلها الاداريون والباحثون، والاستنكار لأنه يواجهنا بحقيقة مؤلمة، أن مؤسسات كثيرة رغم أعمارها الطويلة لم تبلغ بعدُ سنّ الرشد الإداري. إن الاعتراف بهذه الحالة لا ينتقص من مكانة المؤسسات، بل هو الخطوة الأولى نحو الإصلاح. فكما ينضج الإنسان بالوعي والتجربة، كذلك تنضج الإدارة حين تراجع ذاتها بشجاعة، لتصل إلى مرحلة الرشد التي يصبح فيها القرار أكثر اتزانًا، والمسؤولية أكثر عمقًا، والنضج الإداري هو معيار القوة الحقيقي، لا الميزانيات ولا الشعارات.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد