صحيفة السوسنة الأردنية

ينهض صندوق الملك عبدالله للتنمية في قلب المشهد الوطني ككيانٍ يتجاوز حدود الوظيفة المؤسسية ليغدو أفقًا معرفيًا ومختبرًا للفعل الحضاري، فهو مساحة يعاد فيها تشكيل علاقة الإنسان الأردني بذاته وبمستقبله، ويُختبر عبرها مدى قدرة الدولة على الانتقال من التفاعل مع التحوّلات إلى صناعتها، وفي عمق هذا الفهم يتبدّى الصندوق بوصفه وعيًا تنمويًا يتحرّك على أرض الواقع، يحوّل الإمكان الكامن إلى أثرٍ مشهود، ويعيد صياغة الفعل التنموي باعتباره مشروعًا وجوديًا لا مهمة إدارية، ورغم ما أنجزه الصندوق في دعم الشباب والمبادرات وبناء المنصات التمكينية، فإن المرحلة المقبلة تُحتّم تجاوز المنهج التقليدي نحو بناء دورٍ يتأسس على رؤية بنيوية أعمق، فالتنمية ليست تراكمًا لبرامج جزئية، بل هي إعادة إنتاج لطرق التفكير والعمل، وتحويل للمجتمع من مستهلك لفرصه إلى صانع لمستقبله، ومن هذا المنطلق يصبح المستقبل الذي يتطلع إليه الصندوق مشروعًا معرفيًا واسعًا، يبتكر أدواته الخاصة، ويبحث عن آليات أكثر ذكاءً للتأثير في بنية الدولة والمجتمع.
ولا يكتمل هذا التحوّل من دون حوكمةٍ تتجاوز التقنية إلى الفلسفة؛ إذ تصبح الشفافية كشفًا لمقاصد الفعل قبل تفاصيله، ويغدو الإفصاح ممارسةً للصدق المؤسساتي، بينما تتجلى المساءلة بوصفها توازنًا ضروريًا بين الرؤية وأثرها، وعندما يتأسس العمل التنموي على هذا الوعي، يصبح الصندوق قادرًا على تقديم نموذج مؤسسي يتسم بالاتساق والفاعلية، وينسجم مع الرؤى الملكية التي تسعى إلى بناء دولة شابة، متجددة، قادرة على إعادة ابتكار ذاتها، وفي هذا السياق تبرز الحاجة إلى الارتقاء بدور الصندوق من تنفيذ البرامج إلى هندسة المستقبل، عبر دمج أفكار ريادية طموحة تنقل المؤسسة إلى أبعاد جديدة من التأثير، ومن بين هذه الأفكار يبرز مفهوم المختبرات الوطنية للابتكار التنموي بوصفها ساحات تفاعلية تجمع المبدعين والخبراء والشباب لإنتاج حلول جديدة في مجالات التعليم والتشغيل والطاقة والتحول الرقمي، فهذه المختبرات تتيح تحويل الفكرة من مجرد حالة ذهنية إلى نموذج عمل قابل للتطبيق، وتمنح الصندوق قدرة على استباق التحديات بدل الاكتفاء بمعالجتها.
ويتعمق الدور الريادي للصندوق أكثر عبر تأسيس صندوق الأفكار الكبرى، كمنصة تستقبل الرؤى الجبارة والمبادرات ذات التأثير الوطني الشامل، وتحوّلها إلى مشاريع استراتيجية قادرة على إعادة تشكيل قطاعات كاملة، إنها خطوة تُخرج التنمية من إطار المبادرات الصغيرة إلى فضاء الرؤى العميقة التي تبني المستقبل بجرأة واتساع، وإلى جانب ذلك، يبرز إنشاء حاضنة للذكاء الاصطناعي والتنمية الاجتماعية، حيث تتلاقى الخوارزميات مع التحديات المجتمعية لإنتاج حلول ذكية للفقر والبطالة وتحسين الخدمات، فهنا يلتقي العلم بالسياسة العامة، ويصبح الذكاء الاصطناعي أداة للعدالة والتنمية، لا مجرد تقنية مستقلة، إن تحويل الصندوق إلى مركز وطني لتحليل السياسات العامة يمنحه قدرة إضافية على التأثير وصناعة القرار، عبر إنتاج أوراق بحثية وتوصيات علمية تُغذي الدولة وتعيد بناء منظومتها التنموية على أساس معرفي راسخ، ويتكامل هذا الدور مع إطلاق برنامج وطني ينهض بمفهوم "تحويل الريادة إلى صناعة"، عبر الارتقاء من دعم المشاريع الفردية إلى بناء صناعات ناشئة ترتبط بسلاسل قيمة وطنية في الزراعة الذكية، الاقتصاد الأخضر، والصناعات الرقمية.
وعلى هذا الطريق تتعزز الحاجة إلى برامج ترسّخ حضور الشباب في المجال العام، مثل منحة عام من العمل العام للشباب، التي تمنح الأجيال الصاعدة فرصة لاكتساب خبرة عملية في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وتعيد تشكيل مهارات القيادة والفهم العميق للبنية الوطنية، ويكتمل هذا البناء المعرفي عبر إنشاء منصة بيانات تنموية مفتوحة، تُرسّخ الشفافية وتتيح تقييم البرامج وقياس أثرها، ما يسهم في بناء ثقة متبادلة بين المؤسسة والمجتمع، ولكي تكتمل الحلقة بين الفكر والتطبيق، تغدو أكاديمية الملك عبدالله للتنمية المستدامة ضرورة لا خيارًا؛ فهي المدرسة التي يُصاغ فيها جيل جديد من القادة الشباب، القادرين على فهم الابتكار والحوكمة والسياسات العامة بعمق، ليكونوا طاقة المستقبل وأداة الدولة في صنع نهضتها القادمة.

وعند التقاء هذه المسارات جميعها، يتبلور الصندوق باعتباره عقلًا وطنيًا قادرًا على هندسة المستقبل، لا مجرد قناة لتنفيذ البرامج، تتحول التنمية إلى ممارسة واعية، ويصبح الابتكار ثقافة تُعاد صياغتها داخل المجتمع، وبذلك تتجلى الرؤى الملكية على هيئة مشاريع حيّة تشقّ طريقها نحو أردن يليق بطموح شعبه، ويستطيع أن يكسر حدود اللحظة نحو أفق أرحب ومعنى أعمق.