أسفار مدينة الطين
في حيز مكاني ضيق: بين مدينة الكويت أو الديرة، كما كان يطلق عليها وجزيرة فيلكا، وحيز زماني واسع: يمتد على مساحة سبعة عقود كاملة، يبدأ قُبَيل معركة الجهراء عام 1920 وينتهي قبل الغزو العراقي للكويت عام 1990، يأخذ بيدنا الروائي سعود السنعوسي في ثلاثيته «أسفار مدينة الطين» ليعبر بنا من خلال التبة (الغطسة) ذات الموجات السبع، بوابةَ الزمن ذهابا وإيابا، في قرابة ألف وثلاثمئة صفحة ضمتها أسفار الملحمة الثلاثة (سفر عباءة، وسفر التبة، وسفر العنفوز)، ولكن السنعوسي يسلم مِقود الكتابة لأحد أبطال الرواية، ويجلس إلى جانبنا مستمتعا بالرحلة، ليُدخلنا صادق بو حدب -الشخصية الروائية التي تكتب حكايتها- متاهة حقيقية، فهو نفسه ليس سوى ناقل لقصص زوده بها «الشايب»، وهو للمفارقة أيضا إحدى شخصيات الرواية المركزية. ولا يكتفي الراوي أيا كان سعود السنعوسي، أو صادق بو حدب بـ»الدوخة» الفنية التي يسببها هذا الالتباس المقصود والمشغول بعناية، حتى تَخرج الشخصيات من الورق لتصبح حقيقية تلتقي براويها، الذي يتحول بدوره في آخر الرواية إلى حكاية تحكى، متسائلا في براءة ملغومة «هل يخطر في بال روائي، أن يقابل شخصية كتبها في رواية مثلما يُشاهد في أفلام السينما»؟
يلجأ سعود السنعوسي – ليجعلنا نصدق هذا التلاعب المبرمَج- إلى تقنيات مختلفة تضفي واقعية – وإن كانت سحرية – على أحداث الرواية، بداية من صفحة الغلاف الأولى للكتاب المتخيل التي نجدها في الصفحة 17، بكل تفاصيلها كما يفترض أن تكون في رواية صدرت في 1990 من سعر وعنوان السلسلة والجهة التي صدرت عنها، وانتهاء بالغلاف الخلفي في الصفحة 460، مع الكلمة التي عادة تكتب عليه والمطبعة التي طبعته وسنة الطبع، فنقتنع، كما شاء لنا الروائي أنها رواية ضمن رواية. ولمزيد من الواقعية الفنية يستخدم الروائي تقنيات بصرية، فمذكرات الطبيبة الأمريكية التي كتبتْها على آلة كاتبة، نجدها في الرواية مكتوبة بحروف الآلة الكاتبة، كما نجد تمييزا بين السرد والحوار، والمونولوج الداخلي باستعمال الخط الأسود الداكن المائل، الذي يستعمل أيضا للتمييز بين تداخل صوتين داخليين، ويبلغ الالتباس قمته حين يضع الناشر على الغلاف الأخير صورة الكاتب المخترَع «صادق بو حدب» وتعريفا به، بل نجد في متن النص صورة حوار في جريدة أجرته ليلى العثمان، حينما كانت صحافية مبتدئة مع صادق بو حدب مرفوقا بصورتيهما، إضافة إلى رسومات مصاحبة للرواية بريشة الفنانة التشكيلية الكويتية مشاعل الفيصل، التي هي بدورها غدت شخصية روائية في «أسفار مدينة الطين».
كما يعتمد سعود السنعوسي لعبة ذكية سجل بها ثلاثة أهداف دفعة واحدة، ففكرة الرقيب، أو محرر وزارة الإعلام كما سماه، أضفت مصداقية على الرواية بتعليقاته وتدخلاته في الهامش، التي استغلها السنعوسي ببراعة، ليشرح كلمات قد تستغلق على القارئ مثل: التبة والحيص وفداوية ولخمة، حينما نسب هذه الشروحات للرقيب، وأضفى عليه بعض ثقل الدم – ككل رقيب – من خلال تعليقات سمجة متشددة، فحين يرِدُ في الرواية أن شيخ البحارة رقص، يعلق الرقيب: «الرجل يزفن ولا يرقص فالرقص ليس للرجال»، أو حين تمر لفظة حمارة يتدخل مصححا: «تحريا للدقة تسمى أنثى الحمار في اللغة الفصحى: أتان»، والهدف الثالث يتجلى في الأسطر المطموسة بالأسود التي حجبتها الرقابة، وتغطي عادة الأوصاف الجنسية، كما يتبين من السياق، فلم يسقط الروائي في فخ الألفاظ الإباحية المباشرة، ولكنه قال كل ما يريد بتلميح أفصح من التوضيح. ولمزيد من الإصرار على محو الخيط الوهمي الفاصل بين الخيال والواقع يعلق الروائي صادق بو حدب في بداية «سفر التبة»، واصفا صنيع الرقيب «صدرت الرواية بعبارات مطموسة وضعها الأخ الظريف محرر رقابة وزارة الإعلام من دون علمي، ثم صدر قرار لاحق بسحب النسخ وإتلافها».
جميع هذه التقنيات وأخرى تفصيلية غيرها استغلها السنعوسي ليقنعنا في لعبة ميتاسرد محبوكة، أن الكاتب الحقيقي لها ليس سوى شخصية من شخصياتها الذي يؤرجحنا على حبل يميل بنا إلى الواقع حينا وإلى الخيال حينا آخر، ويجيبنا عن سؤال مفترض لماذا تكتب؟ «أكتب كي، أقرأ كي أفهم. وأركض وراء الحكايات عساني أبلغ آخرها، ولا أبلغ إلا مزيدا من القلق والشك في حقيقة ما أكتب، في حقيقة وجود شخصياتي، وفي حقيقة وجودي». دون أن يغفل سعود عن تنبيهنا بجمل صادمة مثل «وتبع المكتوب كاتبه إلى السيارة» تعيدنا إلى الواقع، فالعالم الذي نعيشه ليس سوى تخييل، من «كاتب على حافة الجنون يطارد الوهم، أفرط في كتابة الخيال فابتلعت الأوراق خياله». لنتذكر بعد أن نَنجر مع الأحداث ونستغرق فيها أنها ليست سوى حكاية رواها لنا السنعوسي على لسان أبي حدب، الذي ينقلها عن الشايب، أي رواية عن رواية عن رواية، شبيهة بدمى متريوشكا الروسية التي تحمل كل دمية خشبية دمية أخرى أصغر منها في بطنها.
شُبهت «أسفار مدينة الطين» في نفَسها الملحمي بثلاثية نجيب محفوظ وبمدن الملح لعبد الرحمن منيف، والحقيقة أنه لا قاسم مشترك معهما واضح المعالم سوى اشتمالها على أجزاء، لأن ثلاثية السنعوسي، تشتغل على ثيمات مختلفة، يمكن أن ندخلها في الواقعية السحرية ببعض التوسع في دلالات المصطلح، هي نص سردي حافل بالأساطير مثل مسخ الجن طوعس في صورة قط أسود عصي على الموت، أو فرقة الجن المارق في شكل طيور سقطرى، وتتواتر فيها أسماء الجن من الطنطل إلى بودرياه إلى أم السعف والليف دون إهمال السعلو ودعيدع، أعاذنا الله من شرورها جميعا، ولكن السنعوسي يُبقي الباب مواربا، ولا يقطع الشعرة التي تربط الأسطورة بالواقع، فالعرافة الصاجة أم حدب، لا ظل لها لكنها تمشي في ظلال الجدران فلا يمكننا التأكد من ذلك، وهي بدل القدمين لها حوافر، ولكن كذلك لم يرهما أحد لأنها تستر رجليها بعباءة طويلة عند الجلوس وتجر وراءها سعفتها لتمحو آثار خطواتها. وبودرياه وحش البحر ليس سوى رجل تشوه وجهه نتيجة وقوعه في التنور صغيرا، والمرأة التي يراها الغواصون قابعة في عمق البحر هي في حقيقتها مجرد عباءة التصقت بصخرة، في حين لا يحتاج الروائي أن يحتال بحيلة لإقناعنا بالسفر عبر الزمن ذهابا وإيابا، وما على القارئ سوى أن يسلم بنصيحة خليفوه أو الشايب في ما بعد «انس ذلك الزمن الذي صار فلن تفهم لعبة الأزمان، وإن هناك زمنا الآن يصير».
وبعيدا عن النفس الأسطوري فالرواية تاريخ مواز ليس مطابقا بالضرورة للتاريخ الحقيقي للكويت خلال سبعين عاما شهدت فيها تحولات كبيرة من قرية وادعة يسميها سكانها الديرة، تعتمد على ما يجود به البحر من لآلئ، إلى مدينة نقلها اكتشاف النفط من حال إلى حال، ففي الرواية تأريخ شاعري لعلاقة الساكنة بالبحر إذ حوله السنعوسي إلى شخصية أساسية يستقبل معانقيه فيعيدهم إما أثرياء مثل النوخذا بن حامد، أو جثثا مثل منصور الغيص، يقف على ضفافه نسوة يهزجن ويمنين الأنفس بعودة الأحبة بعد غياب أشهر. كما أن تعدد شخصيات الرواية واختلافها أعطانا فكرة عن مجتمع كوسموبوليتي، يتجاور فيه عاموس اليهودي مع سركيس الأرمني المسيحي مع ساطور ومبروكة الأفارقة، كما نجد فيه شخصية البرنثى (لا ذكر وأنثى) خليفوه جنبا إلى جنب مع نقيضه كريم العين الإمام المتشدد في موزاييك ألف بينه السنعوسي بقدرة استثنائية على الإمساك بجميع خيوطه، مع إسقاطات لا تخطئها عين، مثل وصفه للجماعات المتطرفة ممثلة بإخوان طاع الله، الذين يحاربون «التبغ والخمرة والفجور وبناء المقامات وأضرحة الشرك واستيطان الكفرة» وتذكر الطبيبة الأمريكية في مذكراتها بأنهم «تعرضوا للنساء والأطفال، ونكلوا بهم في غاراتهم على الجهراء»، وصراع الأمريكيين والبريطانيين على الكويت الذي لخصته الطبيبة الأمريكية في هذه الجملة «يكفّر الإخوان العثمانيين ويطالبون بهدم المشفى الأمريكي، لكنهم يصمتون عن وجود الوكيل السياسي البريطاني»، إضافة إلى الحوارات المشغولة بحرفية كمناقشة سعدون العقلاني لخليفوه ذي التفكير الخرافي، وتكرار سعدون عبارة «شغلوا عقولكم».
أنهيت قراءة «أسفار مدينة الطين» بأجزائها الثلاثة مع مشاهدة إعلان عن فيلم مقتبس عنها، وقلت في نفسي إنه لتحد كبير لأي مخرج أن تختصر عوالم متعددة وأحداثا كثيرة وزمنا ممتدا في ساعة أو ساعتين من الزمن، فهل بمقدورنا أن نختصر الربيع كله في قارورة عطر مهما كانت رائحتها زكية؟!
شاعرة وإعلامية من البحرين
في الأردن : اشترِ سيارة .. وخذ الثانية مجّانًا
انتبه! أنت على وشك مجابهة نفسك: بونين
د. سوسن خريس تشارك بمؤتمر في سلطنة عمان
حين تُهزم الجيوش وتنتصر الإرادة
مطلوب محاسب لشركة في عمّان .. شروط
دلالة منع وزراء عرب من دخول فلسطين
مواجهات عربية حاسمة بتصفيات كأس العالم .. مواعيد
الخط العربي وابداعات الفنان التشكيلي الكوفحي
اسرائيل تشن غارات على درعا ودمشق ترد ببيان
تعديلات حبس المدين تدخل حيز التنفيذ في 25 حزيران
توجيه من ولي العهد بشأن بث مباراة الأردن وعُمان
إنهاء خدمات موظفين في التربية .. أسماء
الجبالي يشيد بقرار الإعفاء الجمركي الجديد
امتحان تنافسي حكومي محوسب الأربعاء المقبل .. أسماء
جمعية مكافحة المخدرات توضح حقيقة سحب حلوى الكولا من الأسواق
مجموعة من النساء يهاجمن مشهورة التواصل أم نمر .. فما القصة
فتح باب التجنيد في القوات المسلحة الأردنية اليوم
عُمان تطلب توضيحاً رسمياً بشأن ما حدث بتدريبات النشامى
أموال هؤلاء ستؤول إلى الخزينة العامة .. أسماء
بعد عطلة عيد الأضحى .. هذه العطل الرسمية المتبقية للأردنيين في 2025
كم بلغ سعر الذهب في السوق المحلي الأربعاء
وفاة مستشارة رئيس مجلس النواب سناء العجارمة