البكّاؤون

mainThumb

16-06-2025 07:11 AM

ليست الرواية كتابَ تاريخ لكنها تضيء بطريقة مواربة على أحداث تاريخية تتوضح في أذهاننا، ولا كتابَ علم اجتماع لكن تفكيك الشخصيات وتركيبها يتوسّل علم النفس وعلم الاجتماع وغيرها لبناء عالم مواز لعالمنا الواقعي، وكم من معارف اكتسبناها من قراءة الرواية، وأقرّ مثلا أني لم أكن أعرف الكثير عن المجتمع النسوي الدرزي لولا رواية حنين الصايغ «ميثاق النساء»، وكذلك الحال عمن يجهل تفاصيل حياة الشيعة البحرينيين وطقوسهم الدينية، يخرج بصورة وافية عنهم بعد قراءة رواية عقيل الموسوي «البكّاؤون» التي وصلت هذه السنة إلى القائمة الطويلة للجائزة العربية للرواية العالمية.
لا يخفي عقيل أن البكاء هو ثيمة الكتاب الأساسية، بدءا من العنوان، الذي يورده بصيغة الجمع فكل شخصية في الكتاب لها دواعيها للبكاء، من الجدة حسينية التي بكت عندما غادرت مدينتها للمرة الأولى، إلى الجد عبد علي، الذي بكى بعد تقاعده من شركة النفط، مرورا بالأبناء والبنات، ولكلٍّ سببه وصولا إلى الأحفاد الذين بكى بعضهم على خسارات المنتخب البحريني في دورات عديدة من كأس الخليج. وهذا ما حدا بأحد بطلات الرواية أن تصف سيرة البكاء في عائلتها بقولها «بكينا كثيرا وسنظل نبكي ما دمنا على قيد الحياة». لذلك ليس من الغريب أنّ أوّل جملة صدّر بها عقيل الموسوي روايته كانت «دموعي العابرة غبيّة جداً، لكنها صادقة جدا» وآخر مقطع منها كان «إننا قوم بكاؤون، جئنا إلى الدنيا لكي نسطّر حياتنا بالدموع»، وما بين هذين الحدّين البكائيين، يحكي لنا الروائي «مصائر ثلاثة أجيال متنافرة الأفكار والأهواء والاتجاهات، أجيال تختلف في كل شيء، ولا يوحّدها سوى البكاء والدمع سريع الجريان»، كما جاء في كلمة نادر كاظم على غلاف الرواية الخلفي.
وبعكس كثير من المجتمعات التي تعتبر البكاء ضعفا لا يليق بالرجال، عائلة صادق التي تورث أبناءها الدموع، لا تراه كذلك، فالشخصية الرئيسية لم تسمع قطّ الجملة الشهيرة التي نصادفها في كل مجتمع ذكوري: لا تبك كُن رجلا، ففي عائلة صادق الكبيرة «البكاء ليس من شيم النساء، لا يزدرونه ولا يسخرون منه، إنه شأن مألوف وعادي، بل هو ذو قيمة روحية مرتبطة بالدين»، وقد يتعلّمه أفراد العائلة قبل أن يتعلموا القراءة والكتابة في بيت يتحوّل في شهر محرم إلى مجلس عزاء كبير، يبكي فيه الجميع على الحسين، ويعتبرون «الدموع ولاءً يعبُرُ الأزمنة». وللمفارقة: في هذا المجتمع البحريني الصغير هناك من لا يرى هذا الرأي، بل يذهب إلى نقيضه، يروي بطل الرواية، أنه حين بكى في دفن والد صديقه السنّي نهره أحدهم قائلا: لا تبك الدّموع تعذّب الميت، فهمس صادق في أذن ابن عمه متسائلا عن والد صديقه الذي سيتعذّب لأنه بكى عليه، وماذا عن الحسين الذي يبكيه ملايين الناس؟
من داخل البيت الشيعي يحكي لنا عقيل الموسوي عن طقوس المذهب، خاصة في عاشوراء بنبرة انتقادية حينا لمّا يكتب، واصفا الجدة حسينية بأنها «ترفل في الأسود الصارم حدادا على إمام رحل قبل ثلاثة عشر قرنا»، وحينا بنبرة ساخرة حين يروي قصة الجدار الذي بكى على الإمام الحسين في بيت آل كاظم، غير أن هذا الجدار الدامع ليس سوى رطوبة تسربت من خزان الماء فوق السطح، يؤمن بهذه المعجزة من وصفهم بـ»بسطاء يمكنهم أن يؤمنوا بسهولة أن حمرة السماء هي حزن كونيّ على الحسين، وأن المطر هو بكاء السماء عليه، وأن جذع شجرة شقّه الأطفال ونضح صمغًا، هو شجرة مبروكة تبكي على إمام قتل، أو سُمِّم غدرا، منذ زمن بعيد». وفي الرواية وصف تفصيلي لما يجري في العاشر من محرم من طقوس التطبير ومجالس العزاء، التي تقرأ بغير لهجة البلد فـ»سحرها يكمن في لهجتها العراقية المحببة، لأنها لهجة أوفى للحزن»، ويصف المسيرات الضخمة التي تخرج بعد قراءة المقتل، حيث «بيارق ضخمة يحملها رجال أشداء، ورايات ترفرف بشعارات كربلاء، وخيول حرب ملطخة بالدم في تمثيليات مؤلمة، وجمال تتمايل بهوادجها، ومواكب تلطم تحسرا على فقدان الإمام، ومواكب تضرب الظهور بالسلاسل، وفرق موسيقية تبث ألحانا حزينة، وأعلام سوداء تخفق لا عد لها ولا حصر».
ولكي لا نظلم رواية «البكاؤون» فنحصرها في ثيمة واحدة، نجدها تتناول مواضيع متعددة من تاريخ البحرين الحديث، خاصة بعد الثورة في إيران وانعكاساتها على الداخل البحريني، تلك الثورة التي حولت «الفكر الشيعي من كلام منسي في بطون الكتب إلى مشروع ثوري» وأحدثت شرخا عموديا بين شيعة البحرين، حيث اتبع قسم منهم ولاية الفقيه وفرضها على أهله، ومن يستطيع بقوة المنطق وإلا بمنطق القوة، وبدا التأثر بها واضحا، حتى بما ليس له علاقة بالدين، وإن كان الوازع الديني أقوى، فحتى النساء أصبحن «لا يبدلن إذاعة الراديو عن طهران بما تبثه من أهازيج فارسية مطعّمة بالعربية، حفظها أهل المنامة عن ظهر قلب، يهتفون بها في المواكب الحسينية.. وينشدها في مكبرات الصوت رواديد بحارنة، عرب أقحاح يلوون ألسنتهم من أجل عجمة فارسية رائجة، بعدما صار مزاج الزمن إيرانيا! يستلب نفوس الشباب والأطفال»، كما ورد في الرواية، ولكنّ هناك قسما آخر لا يؤمن بهذه النظرية الفقهية، ويفضل أن يبقى على شيعيته التقليدية مثل عباس عم صادق، فهو من الذين لا يؤمنون بدولة شيعية، بل ينتظرون المعصوم -أي الإمام المهدي – ليقيم دولته في آخر الزمان، كما ظهرت مجموعات أخرى منها جماعة السفارة، ويمثلهم في الرواية الأستاذ غازي، يتلخص فكره في جملة وردت في متن الرواية يقول فيها «نحن جماعة نؤمن بأن مولانا الإمام المهدي حي وقائم بيننا، ولا يستحيل الاتصال به من قبل المؤمنين»، وقد حورب أصحاب هذا الاعتقاد من الجميع. كما تجلت هذه الانقسامات التي مست الشيعة البحارنة في مظاهر عدة وصلت إلى الاختلاف في يوم عيد الفطر ورؤية الهلال في البيت الواحد، حسب وصف ذلك الروائي الذي أضاء أيضا على التمييز العنصري، بين مكونات المجتمع البحريني، فمثلا العمة فاطمة ترفض العرسان القرويين مطلقة جملة اشتهرت بها «قروي! حلايلي! هذا الذي ناقص!» ويشرح صادق ذلك بعد أن سافر إلى لندن فيقول «ما زال بحارنة المنامة.. يسخرون من بحارنة القرى.. ويصفونهم بالحلايل، لفظة ما عادت مجرد نسبة إلى الحلة البلدة أو القرية، إنها صارت ذات مدلول طبقي»، وصادق نفسه الذي يعد مثقفا متجاوزا للفروقات العرقية والدينية، وهو الذي أصرّ على الزواج من بهائية، رغم أن «الشيعة هم أكثر المذاهب الإسلامية عداء للبهائيين»، يقع في فخ التمييز ولو لفظيا، رغم حبه الكبير لزوجته فيقول لصديقه البريطاني «تعرف في طفولتي حذرني جدي الراحل من العجم، وها أنا أتزوج من فارسية»، فالعجم الذين أفرد لهم الموسوي الفصل التاسع من روايته معرّضون أيضا لنوع من التمييز، يتجلّى في اعتراض الأم العربية على زواج ابنتها زينب من سهراب ذي الأصول الفارسية فتصرخ في ابنتها «تتزوجين عجمي؟ عليك أن تخجلي من نفسك لأن هذا خطر ببالك»، ولكن الحب ينتصر في الأخير ويتزوج العاشقان، وهو الحب نفسه الذي ينتصر في أغلب الأحيان في الرواية، فرغم العراقيل الكبيرة التي أخرت زواج صادق الشيعي من حبيبته ضياء البهائية، بسبب ممانعة أهل الطرفين، لكنهما تزوجا مع بقاء كلٍّ منهما على دينه، الدين الذي قال عنه صادق في لحظة تأمل «فهمت أن الأديان هي سبب تعاسة البشر، تعدهم بالسعادة في السماء، لأنها لا تستطيع أن تهبها لهم على الأرض».
رواية «البكاؤون» رصد لتحولات المجتمع البحريني، خلال خمسين سنة، تحولات عمرانية تجلت في مفارقة ساخرة كما وصفتها الرواية فـ»بدل أن يهيج البحر ويبتلع المدينة، ابتلعت المنامة البحر وازدردت سواحله»، وتحولات فكرية تجلت في عبد علي الجد الناصري القومي، الذي كان يحلم أن يسمي أحد أبنائه (جمال)، ولكنه ينجب شيعيا تقليديا هو عباس، وشيعيا ثوريا مسيسا وصل إلى قبة البرلمان هو جواد الذي وصفته زوجته قائلة «تزوج أبو صادق القضية»، وحفيدا مستعدا لتغيير دينه إلى البهائية كرمى لعيون حبيبته. هذه التحولات تناوب على حكايتها راوٍ عليم في أغلب فصول الرواية، مع صادق الشخصية الأساسية في الرواية في سرد تراوح بين التقريرية مثل الفصل الذي شرح فيه الروائي مبادئ البهائية، والحكائية المشوّقة في فصول الكتاب الأخيرة، لنتوافق مع نادر كاظم ونحن ننهي قراءتها حين كتب أن «البكاؤون»: (روايةٌ تتعانق فيها تراجيديا الدم وفوران الدّمع في المآقي مع الحب الرومانسي الجارف، وتتناسل أحداثها من قلب المنامة القديمة، ومن ذاكرتها الغنيّة بكل شيء).

شاعرة وإعلامية من البحرين



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد