الشباب والتعليم في زمن التحوّل الرقمي

mainThumb

10-07-2025 01:19 AM

في قلب كل أمة شابة يكمن سؤال مُلِحّ: كيف نصنع المستقبل بأيدي الجيل الجديد؟ وفي العالم العربي، حيث يشكّل الشباب أكثر من 60% من السكان، يصبح هذا السؤال ليس طموحًا فقط، بل ضرورة وجودية. لكن حين تتلاقى هذه الكتلة البشرية مع أزمة التعليم التقليدي، وانفصال المناهج عن سوق العمل، تتولد فجوة يصعب تجاهلها… فجوة تُترجم إلى بطالة، هجرة، واغتراب داخلي لا يُرى بالعين، بل يُشعَر في انكسار الطموح.

وسط هذا المشهد، جاءت المنصات الرقمية التعليمية كنافذة ضوء. انفجار الدورات عبر الإنترنت، وبرامج التدريب الذاتي، والتعلُّم المرن من أي مكان، كان يُفترض أن يُحدث ثورة تعليمية. لكن السؤال الذي لم يُطرح بصدق بعد هو: هل استغلّ العالم العربي هذه الفرصة فعلاً؟ أم أن الثورة الرقمية مرت من أمامنا… دون أن نركب القطار؟

في حين أن دولًا مثل الهند والبرازيل استخدمت التعليم الرقمي لتقليص فجوة المهارات، وربط الشباب بفرص عمل عالمية، لا تزال غالبية الجامعات العربية تفتقر إلى منصات تعليمية حديثة. بل أن كثيرًا من طلابها لم يجرّبوا تجربة تعلُّم واحدة خارج قاعات المحاضرات. رغم ذلك، فإن نماذج عربية فردية أثبتت الإمكانات الكامنة: منصة "رواق" التعليمية في السعودية، أو "إدراك" في الأردن، نجحتا في الوصول إلى ملايين المتعلمين، لكنها تظلّ مبادرات جزئية لا ترقى إلى "سياسة تعليم رقمية شاملة".

وفق تقرير البنك الدولي لعام 2023، فإن أكثر من 40% من الشباب العرب يفتقرون للمهارات الرقمية الأساسية، رغم أن 80% منهم يستخدمون الإنترنت يوميًا. هذا التناقض الصارخ يكشف عن إشكالية تربوية حادة: نحن مجتمع مستهلك للتقنية، لا مُنتجًا لها، ولا حتى مُهيمِنًا على أدواتها التعليمية.

لكن لعلّ الأزمة الأعمق ليست في البنية، بل في الرؤية. كثير من السياسات التعليمية العربية لا تزال تعتبر الإنترنت تهديدًا بدل أن ترى فيه منصة تحرير. لا تزال تُركّز على الحفظ والامتحانات، بدل بناء الكفاءات والمهارات. وما لم يتحوّل التعليم من "نظام تلقين" إلى "نظام إتقان"، سنبقى ندور في حلقة بطالة لا تنكسر.

الجانب الآخر من المشهد، وهو الأكثر وعودًا، يتمثل في ريادة الأعمال الرقمية. في السنوات الأخيرة، ظهرت آلاف المشاريع الناشئة في العالم العربي، من تطبيقات توصيل، إلى متاجر إلكترونية، إلى محتوى مرئي ومسموع يُنتَج بأيادٍ شابة. لكنّ هذا التيار لا يزال "حلمًا فرديًا"، لا سياسة وطنية شاملة.

في الأردن مثلًا، تزدهر المبادرات الريادية في الزرقاء وإربد والسلط، لكنها تصطدم ببيروقراطية تمويلية، وندرة في الحاضنات الحقيقية، وصعوبات في ربط الرياديين بالأسواق. بينما تشير بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن الاقتصادات الناشئة التي ضاعفت استثماراتها في ريادة الأعمال الرقمية استطاعت أن تقلل البطالة بين الشباب بنسبة تتجاوز 20% خلال عقد واحد.

ولنا في تجارب مثل إستونيا ورواندا عبرة: دول صغيرة، لكنها بنت "بيئة رقمية صديقة للريادة"، تُمكّن الشباب من بدء مشاريعهم في ساعات لا أشهر، وتُبسّط الضرائب، وتربط رواد الأعمال بالمنصات العالمية. فلماذا لا تفعل دولنا الغنية بالبشر والموارد ما فعلته هذه الدول الصاعدة؟

إنّ التحول الجوهري لا يبدأ من تقديم دورة مجانية هنا، أو حاضنة أعمال هناك، بل من رؤية جديدة تدمج التعليم بريادة الأعمال في منظومة واحدة. لا يمكن فصل المهارة عن الشغف، ولا الشغف عن التمكين الاقتصادي. ما نحتاجه هو سياسة متكاملة تجعل من التعليم الرقمي وسيلة لبناء مشاريع قابلة للنمو، ومن الريادة الرقمية بوابة لتحقيق الذات والمساهمة في الناتج المحلي.

نعم، التعليم الرقمي قد يكون أمل المستقبل، لكن فقط إن جعلنا منه حقًا للجميع، لا امتيازًا للقادرين. وريادة الأعمال الرقمية قد تقود الاقتصاد، لكن فقط إذا أزلنا من طريقها المتاهة البيروقراطية.

في النهاية، نحن لا نفتقر إلى العقول، بل إلى الأنظمة التي تؤمن بها. لا نفتقر إلى الأفكار، بل إلى السياسات التي تحررها من قيد الورق. والجيل الجديد لا يحتاج منّا وصاية، بل يحتاج نافذة على العالم، وثقة بأن يبدعه بطريقته.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد