قوة معبودها الشَّر

mainThumb

20-07-2025 11:32 PM

منذ القدم والمآسي تلازم البشر، وأينما تحلُّ المآسي، يكن الظلام رمزا للشرور وعلامة فارقة عليها. والشَّر على أصناف، تتوزع الحياة البشرية على مرِّ الزمان، فعصر فيه يسود الظلم والاضطهاد، وآخر يسود فيه الجوع والاقتتال. حتى كأن لا فهم لقيمة الحياة من دون المفارقة الساخرة التي فيها البشر يملكون القوة الظلامية، وبها يعذبون بشرًا مثلهم.
وإذ تنطوي كل المآسي على شَّرٍ ممضٍ، فإن من المعتاد أن يقابله خيرٌ قليل مهان، ولأن في المضاضة ظلاما وعمى، يكون في القلة شموخٌ ورفعةٌ. والمفروض أن يتعلم البشر الحكمة من مآسي الحياة، ويتخذوا منها دروسا وعبرا. يقول أفلاطون: «من يقتل الناس ظلما وعدوانا ويذق بلسانٍ دنسٍ دماءَ أهله ويشردهم ويقتِّلهم، فمن المحتم أن ينتهي به الأمر إلى أن يصبح طاغيةً، ويتحول إلى ذئب». غير أن واقع الحال ليس كذلك، وأخذ العظة لا يكون بهذه البساطة. ولو كان البشر يتعظون من المآسي التي سبقتهم لما وقعوا في المزيد منها.
ولعل السبب وراء استحالة أخذ العبرة، هو أنَّ قوة الظلام تعمي الأبصار وتغشي القلوب، فيكون الاعتداد والغطرسة والتجبر والطغيان سمات بشر تأخذهم قوة الظلام إلى أبعد نقطة في درك الشر. ومن ثم يكون تكرار مآسي العالم القديم حاصلا في عالمنا الحاضر الذي يوصف بالتقدم التقني والرقي الفكري. وكيف لا تتكرر المآسي، وعديدٌ محسوبٌ على البشر تلبَّستهم الشيطنة، فصاروا عبدا للطاغوت ومحركا يمدُّ عجلة الشر بالديمومة؟ وما دام عبّاد الطاغوت موجودين، فإن قوة الظلام ستستمر في إحالة حياة البشر إلى مسلسل مأساوي دائم العرض، وما من سبيل إلى إيقافه.
وما عَرف البشر الأدب والفن إلا وسيلة يعبِّرون من خلالهما عما تسببه قوة الظلام من مآسٍ. وصار الخيال أهم عنصر، به يتمكن المبدع من الارتفاع بعمله إلى مستوى يصل فيه إلى سمات قوة الظلام، فيجسِّد الشَّر على أصوله. والأدب أو الفن الذي لا خيال فيه ناقص أو غير قادر على تمثيل الحياة في واقعية ما يجري فيها من أهوال. وكلما كان المبدع ذا مخيلة خصبة، امتلك مقومات الإبداع الأصيل، وتمكن من إنتاج أدب وفن، يصوِّران قوة الظلام وهي تتمادى في صنع الشَّر.
وما من رائعة من روائع الفن والأدب قديما وحديثا إلا وموضوعها قوة الظلام، خذ مثلا الملاحم والمسرحيات والروايات والقصص الكلاسيكية منها والحديثة، فستجد أن الخيالي واللامعقول طريقان سالكان لتمثيل الصور التي بها تلعب قوة الظلام دورا في جعل نفر من البشر أشرارا دفعة واحدة.
ولا شك في أن التمعن في أدب المأساة يعطينا صورة مقرَّبة لدموية قوة الظلام. ولنأخذ رواية «الاخوة كارامازوف» ففيها وضع دوستويفسكي قوة الظلام في إيفان كارامازوف الذي يظهر للسطح في مظهر الوجاهة والبراءة لكنه في العمق شيطان مريد، فيه كل عناوين الشر من رعب وجور وفجور. ومثل ذلك نجده في شخصيات دوستويفسكي الأخرى التي هي شياطين، تتلبس لبوس النعومة والعفة.
ولقد سعت رواية القرن التاسع عشر بالمجمل إلى التعبير عن روح العصر من خلال تصوير قوة الظلام ممثلة في الفرد الذي عدّه لوكاش (شكلا من معارضة واقع الرأسمالية الناشئة المهين والهدّام.. وتعبيرا أدبيا عن الشذوذ الاجتماعي) وهو ما تمثله رواية «قلب الظلام» وفيها مارلو هو هذا الفرد المعارض لقوة الظلام، ممثلة بالاستعمار الاستيطاني الذي ما أن غزا بلدان الشرق حتى قاست الشعوب المقهورة صنوف الشر. ولم يكتف جوزيف كونراد بالارتفاع بمخيلته كي يرى قوة الظلام في هذا الاستعمار، بل تدخل مباشرة بهذه الفقرة التي جاءت في شكل ميتاسردي، ظهر فيها صوته مباشرة وهو يقول: «لقد كانوا غزاة وعندما تكون غازيا، فإن ما تحتاجه هو القوة الهمجية فقط». ومن بعد ذلك اختفى صوت كونراد ليعاود السارد عمله إلى ما قبل نهاية الرواية حين ظهر كونراد مجددا لكن متقنعا بصوت مارلو وهو يختصر لنا فلسفة قوة الظلام التي معها يدوم الشر إلى أبد الأبدين بقوله الشعري هذا: «بدا عرض البحر أسود بغيوم سوداء في حين كان المجرى المائي الهادئ يتدفق نحو أقاصي الأرض، ليتدفق بلونه المعتم تحت سماء داكنة، وبدا وكأنه يمضي إلى قلب ظلام هائل».
كثيرة جدا هي مآسي السواد والعتمة والظلام التي عاشتها الشعوب المضطهدة تحت نير الاستعمار. أما رواية القرن العشرين، فاختلفت عن سابقتها في أن الفرد لم يعد شكلا للمعارضة؛ فلقد أنهار تحت هول الرأسمالية التي كانت بالأمس ناشئة وهي اليوم متغولة. فكيف عبّرت هذه الرواية عن قوة الظلام؟ الجواب: من خلال المواجهة مع مجهول، تمثله دولة أو فلسفة أو مكون أو شركة. ففي رواية «رجل في الظلام» وجد بول أوستر قوة الظلام تكمن في دولة بلاده «الولايات المتحدة» وتنبأ بالحال الذي ينتظرها بعد أن صار الفرد فيها واقعا بقوة الظلام تحت أتون شرها. ومما يذكره السارد من هذا الشر أحداث «الحادي عشر من سبتمبر» و«الحرب على العراق»: «العالم المشؤوم. العالم المقصوم. العالم الغريب. يهيم دون مستقر له، ولهب الحرب يلفنا. الأوصال المقطوعة في أفريقيا. الرؤوس المقطوعة في العراق. وفي رأسي حرب أخرى. حرب من بنات الخيال تدور رحاها على أرض الوطن أمريكا التي تتصدع وتتفتت.. إنها أمريكا الأخرى التي لم تعش الحادي عشر من سبتمبر ولا حرب العراق، على الرغم من أنها ترتبط بحلقات قوية بأمريكا التي أعرفها».
ولقد كان الكاتب الكبير توفيق الحكيم ذا عين تنبوئية استشرفت استفحال مستقبل قوة الظلام في بلادنا العربية من خلال قولٍ لوزير خارجية أمريكا سمز ويلز: «ليس في مقدورنا أن نتكهن بشيء عن احتمال العودة مرة أخرى إلى ظلام القرون الوسطى على الأقل فيما يتعلق بشؤون الفكر والروح»، وردًا على ويلز، ألَّف الحكيم كتابه «سلطان الظلام» ونشره مطلع أربعينيات القرن العشرين، وفيه تساءل: هل في الإمكان حقًا أن يمحق الإنسانيةَ ظلامٌ بعد هذا الشوط الذي قطعته في سبيل النور؟ وتوصل الحكيم بعد جملة استقراءات واقعية وتحليلات لمحركات الشر الظلامية إلى أن (أول خطوة في طريق التحرر من سلطان الظلام هي القضاء النهائي على رغبة القوي في الوثوب على الضعيف) وهو أمر تتطلع البشرية في كل زمان ومكان إلى تحقيقه.
وإذا كان المستقبل هو ما خشي الحكيم عليه من سلطان الظلام، فإن لنا أن نفكر بطرق أخرى، نحمي بها مستقبلنا، منها استعادة الماضي، ألسنا امتدادا لذلك السلف الذي نشر إشعاعات الحضارة على مدى عصور كانت فيها مدننا العربية مقصد كل طالب علم، ومبتغى كل باحث عن الخير والثراء، بينما كانت مدن أوروبا تغط في ظلام دامس؟
بالتأكيد سنبالي بمثل هذا الطرح على المستوى الفردي، لكننا بالطبع لن نكون جادين في اتخاذ هذه الطريق سبيلا لمواجهة قوة الظلام على المستوى الجماعي؛ فالفرد الغربي والشرقي معا سحقتهما الرأسمالية المتغولة والعولمة الناعمة. ومن ثم لا يكون هذان الفردان قادرين على المواجهة. وبهذا تظل المآسي في زماننا الحاضر والزمان الآتي موحشة بالشر الذي يمثله اليوم قطب واحد متفرد، بيده قوة الظلام. وما من وصف لهذا القطب سوى أنه «عدو البشرية».
وقد لا نستغرب حين نجد بعضنا يرى طغيان سلطان الظلام في حاضرنا، فيتصور أن لا جدوى في التفكر بمستقبلنا. فلقد تفردت قوة الظلام بالعالم، وبرز الشر كله، وانزوى الخير كله. وها نحن نشهد كل يوم أحداثا تُذكِّرنا بأن العالم تحت طغيان قطب في يده قوة الظلام. وهذا ما أدركه جون دوس باسوس قبل قرن تقريبا، فكتب ثلاثيته «الولايات المتحدة الأمريكية» مسجلا ويلات الحروب الأهلية ودمويتها البشعة التي ستجعل هذه الولايات قوة ظلامية، تهيمن على العالم كله.
وما يجري في فلسطين منذ مطلع القرن الماضي حتى اللحظة هو عيّنة مصغرة لمآل عالمي سيشمل البشرية جمعاء، لكن أدب المأساة يبقى سلاحا قديما حديثا في مواجهة مستقبل قوة الظلام. وأكثر الأدباء استشرافا لهذا المستقبل، أقدرهم على تخيل كوارث الطغيان والجبروت التي بها ستظل البشرية تشهد مزيدا من التراجيديات التي لن تنتهي عند حدٍّ. ولعل واحدة من هذه الصور تتمثل في الديمقراطية التي لا يتصور كثيرون أنها شرٌ وصنيعة قوة الظلام. ولقد حددّ أفلاطون فحواها بأنها طغيان العامة واللانظام، وبها حُكِمَ على سقراط بالموت. وكم هي أحكام الإعدام التي جرت بسبب هذه الصورة النقية في الظاهر والظلامية في الباطن، وكم خسرت الدول بسببها ثرواتها وفرَّطت بسيادتها، لتبقى الغلبة لقوة الظلام التي معبودها الشَّر.
*كاتبة من العراق



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد