القيادة العصرية في الأردن: من السلطة إلى التمكين

mainThumb

10-08-2025 12:03 AM

في ظل التغيرات المتسارعة والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها الأردن، لم يعد النهج التقليدي في القيادة كافيًا لمواكبة المتطلبات الحديثة، فالمجتمع اليوم يحتاج إلى قادة يمتلكون رؤية واضحة (Vision)، ويجمعون بين الحزم والمرونة، وبين القدرة على اتخاذ القرار وخلق بيئة عمل ملهمة تحفّز على الإبداع والمبادرة.

تشهد المملكة ظروفًا معقدة تتمثل في ارتفاع نسب البطالة التي تجاوزت 21% وفقًا لدائرة الإحصاءات العامة في عام 2024، وغلاء المعيشة نتيجة التضخم، إلى جانب محدودية الموارد الطبيعية واعتماد الاقتصاد على قطاعات تقليدية، وهذه المعطيات تفرض على القائد الأردني أن ينتقل من أسلوب الإدارة من أعلى لأسفل (Top-Down Management) إلى نهج أكثر شمولًا يراعي إشراك مختلف الفئات في عملية صنع القرار.

يمكن للأردن أن يستفيد من تجارب دول نامية مشابهة في التركيبة السكانية والموارد، فالمغرب مثلًا، ورغم محدودية موارده الطبيعية، نجح في تعزيز الاقتصاد من خلال الاستثمار في الطاقات المتجددة، ما يعكس قيادة استراتيجية تستشرف المستقبل وتوظف الموارد بشكل مبتكر، أما الإمارات فقد انتقلت من نموذج اقتصادي تقليدي إلى اقتصاد متنوع قائم على التكنولوجيا والابتكار، بفضل سياسات قيادية واضحة ودعم بيئة ريادة الأعمال، وهذه الأمثلة تؤكد أن التحول القيادي ليس ترفًا بل خيارًا استراتيجيًا يمكن أن يغير مسار التنمية.

لا يمكن تجاهل أن البيئة السياسية في الأردن تؤثر بشكل مباشر على فعالية القيادة، فالتوازن بين الاستقرار السياسي والانفتاح على الإصلاحات يشكل معادلة حساسة، وبعض العقبات تشمل البيروقراطية التي تبطئ الإجراءات الحكومية وتحد من قدرة القادة على تنفيذ المبادرات بسرعة، والقيود التشريعية التي أحيانًا تقف عائقًا أمام تطبيق أساليب القيادة الحديثة أو الاستثمار في قطاعات مبتكرة، إضافة إلى استمرار فجوة الثقة بين المواطن والمؤسسة، وهي فجوة تحد من قدرة أي قائد على حشد التأييد لمشروعات إصلاحية جريئة، والتعامل مع هذه التحديات يتطلب شجاعة سياسية وحوارًا وطنيًا واسعًا يضمن مشاركة الأطراف كافة.

ومن أبرز الإشكاليات التي تواجه القيادة في الأردن وجود فجوة ثقة بين بعض شرائح المجتمع والمؤسسات، ولردم هذه الفجوة، يجب على القائد التحلي بدرجة عالية من الشفافية (Transparency)، أي الوضوح في القرارات ومشاركة المعلومات بشكل صريح، مما يعزز المصداقية ويخلق بيئة يسودها الانفتاح والتعاون، وعلى سبيل المثال، أطلقت وزارة الاقتصاد الرقمي مبادرات تتيح الاطلاع على بيانات المشاريع الحكومية بشكل مفتوح، مما يعكس التزامًا واضحًا بالشفافية.

القائد العصري لا يكتفي بنهج إصدار الأوامر والتحكم (Command and Control) التقليدي، بل يسعى إلى الإلهام والتمكين (Inspire and Empower)، أي إلهام وتمكين فريق العمل والمجتمع ليكونوا جزءًا من صناعة الحلول، وهذا النهج ظهر جليًا في تجربة جلالة الملك عبدالله الثاني الذي غالبًا ما يركز في خطاباته على تمكين الشباب ودعم الأفكار الريادية بدلًا من فرض حلول جاهزة.

ويُعد نموذج القيادة الخادمة (Servant Leadership) من أكثر الأنماط القيادية ملاءمةً لاحتياجات الأردن اليوم، حيث يضع الفريق والمجتمع في قلب القرارات، ويمنح الأولوية لخدمة الناس، ومثال ذلك مبادرات مؤسسة ولي العهد التي أسهمت في تدريب أكثر من 15 ألف شاب وشابة في مجالات التكنولوجيا الحديثة، ما يبرهن على قيادة تخدم المجتمع قبل المصالح المؤسسية.

القائد العصري في الأردن يحتاج إلى مهارات الاستماع العميق (Listening) لفهم هموم الناس، والقدرة على التكيف (Adaptability) في مواجهة المتغيرات السريعة، إضافة إلى التعاون (Collaboration) مع مختلف الأطراف، وتجربة أمانة عمّان الكبرى في إشراك السكان عبر المنصات الإلكترونية لتحديد أولويات البنية التحتية تعكس هذا النوع من التعاون الفعّال، كما أن الشباب الأردني يمثل رأس المال البشري الأهم، ولتحقيق التنمية المستدامة يجب على القادة توفير فرص (Opportunities) للتدريب والعمل، وخلق بيئة تشجع الابتكار (Innovation) والريادة (Entrepreneurship)، ومبادرة "StartUp Jordan" مثال حي على هذا، حيث تُوفّر حاضنات أعمال وبرامج تدريبية للشباب لبدء مشاريعهم الخاصة.

وفي عصر الاقتصاد الرقمي (Digital Economy)، يصبح من الضروري أن يوظف القادة أدوات اتخاذ القرار القائم على البيانات (Data-Driven Decision Making) لاتخاذ قرارات مبنية على حقائق وأرقام، وقد بدأ البنك المركزي الأردني بالفعل في هذا التوجه من خلال تحليل البيانات المالية لتعزيز السياسات النقدية بشكل أكثر دقة، كما يجب أن يتبنى القادة ثقافة الاحتفاء بالنجاح (Celebrating Success) وتقدير الإنجازات، وعلى سبيل المثال، احتفال وزارة التربية والتعليم بالمدارس الفائزة في مسابقة الابتكار التعليمي يعكس أهمية التقدير المعنوي في تحفيز الأفراد والمؤسسات على التميز.

إن الأردن يقف أمام مرحلة حاسمة، حيث تتطلب المرحلة القادمة قيادة عصرية تمزج بين التفكير الاستراتيجي (Strategic Thinking) والنهج المتمحور حول الإنسان (Human-Centered Approach)، والتجارب الدولية تشير إلى أن التحول القيادي ممكن حتى في بيئات مليئة بالتحديات إذا ما توافرت الإرادة السياسية والرؤية الواضحة، وإذا استطاع القادة تبني قيم الشفافية، وتمكين المجتمع، وخدمة الناس، فإن المستقبل سيكون أكثر إشراقًا، مع فرص حقيقية لبناء وطن قوي يوازن بين متطلبات التنمية الاقتصادية واحتياجات الإنسان.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد