صانع أحلام الطفولة

mainThumb

11-08-2025 12:39 AM

يندر أن تجد طفلا لم يقرأ أو يشاهد أو يسمع قصصا مثل «عقلة الإصبع»، أو «عروس البحر الصغيرة»، أو «فرخ البط القبيح»، أو «ملابس الإمبراطور الجديدة»، أو «الأميرة وحبة البازلاء»، أو «بائعة الكبريت»، إضافة إلى مئة وخمسين قصة غيرها ألهبت مخيلة الأطفال في العالم كله، وقُرئت بأكثر من 150 لغة، وتزداد دهشتنا حين نعلم أن هذه القصص جميعا وليدة خيال شخص واحد -تصلح قصة حياته الغريبة أن تكون واحدة من أكثر قصصه تشويقا – وهذه السنة توافق الذكرى المئة والخمسين لوفاته (04/08/1875)، ويكفي تكريما لإنجازاته أن أهم جائزة عالمية تمنح لمؤلف ورسام كتب أطفال تحمل اسم «جائزة هانز كريستيان أندرسن».
عرفتُه مبكرا ككل أبناء جيلي، عبر قصص المكتبة الخضراء، ثم من بعض المسلسلات الكرتونية المقتبسة عن قصصه، لذلك حرصت على زيارة متحفه في مسقط رأسه مدينة أودنسه الدنماركية، يوم دُعيت قبل عشرين سنة إلى مهرجان شعري هناك، فكان دخول المتحف سفرا عبر الزمن، تُرافق فيه حورية البحر وتَعطف على بائعة الكبريت وتَفرح لمصير البطة القبيحة، من خلال صور ومجسمات ومرئيات ومسرح. وخرجت من المتحف الغرائبي وأنا متأكدة أنه ليس صدفة ولا عبثا أن يصبح الطفل هانز غريب الأطوار، أشهر كاتب قصص أطفال في العالم، وينصب له تمثال مع بطته القبيحة في حديقة سنترال بارك الشهيرة في نيويورك.
حياة هانز كريستيان أندرسن قصة تستحق أن تروى، ولحسن الحظ ترك لنا بنفسه تفاصيل كثيرة عن حياته، سواء من خلال مذكراته، أو كتابه «حكاية حياتي الخيالية»، أو حتى ما نثرَه في قصصه من عناصر تتشابه مع حياته، مثل قصته «المرتجل»، ويجمع النقاد أن البطة القبيحة ليست سوى أندرسن نفسه، ولم ينكر ذلك فقد كتب مرة «هذه القصة بالطبع تعكس حياتي الخاصة»، فهو مثل البطة حاد الصوت كبير الأقدام حتى قيل عنه تنمّرا: لا يمكن لأحد أن يسرق حذاءه، وكما تتحول البطة القبيحة إلى بجعة جميلة تحول هانز أندرسن إلى أسطورة أثناء حياته، يدخل قصور الملوك ويرتبط بعلاقات صداقة مع مشاهير الفن والأدب في عصره مثل: شلنج وشومان وليست وفاغنر وهاينه وهوغو وبلزاك ولامارتين، ويمتد تأثيره من صديقه تشارلز ديكنز إلى الواقعية السحرية في ما بعد.

في أودنسه الدنماركية، وكانت يومذاك قبل قرنين وعقدين (1805) قرية صغيرة، ولد هانز كريستيان أندرسن في غرفة صغيرة أشبه بكوخ، محاطا بالتعاسة والفقر، فأبوه إسكافي بسيط وأمه امرأة أمية اضطرتها ظروف عائلتها الصعبة أن تغسل ثياب العائلات الميسورة، مقابل كرونات معدودة، وجدّه مجنون يتندّر عليه أهالي أودنسه (وكم أُحرج حفيده بسببه)، وحتى تكتمل المأساة: هانز نفسه طفل غريب الأطوار والمنظر معا، كانوا يشبهونه بطائر اللقلق، بسبب يديه الطويلتين النحيلتين وقدميه الكبيرتين، وأنف ضخم كالمدفع تحت عينين صغيرتين مثل حبتي بازلاء خضراء، كما وصف نفسه في إحدى قصائده. وهذه الظروف مجتمعة جعلت منه طفلا انطوائيا يكره المدرسة لسخرية زملائه منه، ويبني لنفسه في زاوية من البيت مسرحا للدمى يعيش معهم، ويؤلف القصص التي يقتبسها مما كان والده يرويه له كبعض حكايات ألف ليلة وليلة، ومسرحيات لودفيغ هولبرغ، وكان والده رغم ضيق ذات اليد قارئا نهما، كما كان يغذي مخيلته بحكايات أمه الشعبية والأساطير التي تعتقدها بشدة، وفي سن الحادية عشرة من عمر هانز توفي والده فترك الدراسة ليساعد أمه، وبعد ثلاث سنوات انتقل إلى كوبنهاغن حالما بأن يجد فرصته ليصبح مغنيا، أو ممثلا في المسرح الملكي، ولكن صوته وشكله حالا دون ذلك، غير أن موهبته في كتابة القصص لفتت مدير مسرح كوبنهاغن فأمّن له منحة ملكية لمواصلة تعليمه، فوجد الشاب ذو السبعة عشر عاما نفسه يجالس أطفالا يصغرونه بأعوام عديدة، وقد عانى أيضا من تنمر رفاقه الصغار وتسلط الناظر الذي أسكنه عنده، وحين روى في ما بعد ما حصل معه لملكة الدنمارك انهمرت دموعها.

ميزة هانز أندرسن أن اليأس لا يعرف إلى نفسه سبيلا، بل كان مؤمنا بمواهبه، حتى لفتت أشعاره ـ وقد بدأ شاعرا- أنظار المهتمين بالأدب إليه، أما قصصه ابتداء من قصته التي تعتبر انطلاقته الحقيقية بعنوانها الطويل «جولة سيرا على الأقدام من قناة هولمن إلى النقطة الشرقية من أماغر» فقد عرّفت أوروبا به، وكان لأسفاره التي روى ما تعلق منها بإيطاليا في كتابه السيري الخيالي «المرتجل» قد فتحت له أبواب النخبة بأدبائها وفنانينها وأرستقراطييها، إلى حد أنه حينما زار لندن نزل ضيفا في بيت أشهر أدبائها تشارلز ديكنز، ولكن غرابة أطواره حوّلت زيارته، التي كان من المفترض لها أن تدوم أسبوعين فأصبحت خمسة أسابيع، إلى جحيم لديكنز وعائلته، فقد كان هانز يطالب ابن ديكنز أن يحلق له ذقنه يومياً (مدعياً أنها عادة دنماركية)، ما جعل صاحب «قصة مدينتين» يكتب على مرآة غرفة الضيوف «نام هانز أندرسن في هذه الغرفة خمسة أسابيع، وهو ما بدا للعائلة دهرا طويلاً جداً!» وقطع علاقته به. وللإنصاف فقد كانت تصرفات هانز أندرسن غريبة حقا، فقد كان مثلا يخشى أن يدفن حيا فكان يضع ملاحظة جنب سريره في الليل مكتوبا فيها «أنا أبدو ميتا فقط»، كما كان يحمل معه دوما حبلا طويلا ليهرب من المبنى، إذا ما حاصره حريق. ولكن كل هذه التصرفات التي تلامس حافة الجنون، لم تمنع النخبة من الاحتفاء به، ولا عامة القراء من الولع بما يكتب، إلى حد أن ترجمات بالعشرات صدرت في حياته لحكاياته الخرافية.

عانى أندرسن كثيرا من التنمر صغيرا وكبيرا، ومن الفشل العاطفي مرارا رغم أنه أحب مرات عدة، وبلغ من وفائه لمن أحب أن وجدوا في جيبه حين توفي صورة وخطابا عمرهما سنوات عديدة من حبيبة قال عن قصة حبهما «أليس من الحماقة بالنسبة لي أنا الرجل الفقير أن أقع في الحب»، كما عشق المغنية الشابة السويدية جيني ليند في حب من طرف واحد، ترك في قلبه ندوبا جعلته يعرض نهائيا عن الزواج، لكن هذا الحب ترك لنا روائع قصصه مثل «العندليب» و»الملاك» وتحت شجرة الصفصاف»، فقصصه ليست في الحقيقة سوى مرآة تعكس حياته، مثلما ذكرنا عن البطة القبيحة، التي تحوّلت من مخلوق غير محبوب منبوذ من بقية فراخ البط إلى بجعة جميلة يحسدها الجميع، أليست هذه القصة معادلا موضوعيا لهانز الطفل ذي المظهر المضحك الذي يعاني من عسر القراءة ومضايقات أنداده له، لكنه يتحول إلى كاتب مشهور عالميا؟
ولكن! ما الذي يجعل كاتبا من أقصى شمال أوروبا يكتب بلغة لا يتحدثها أكثر من مليون ونصف المليون شخص في وقته، يصل إلى قلوب الملايين، وتقتبس قصصه في أفلام ومسرحيات ومسلسلات وقطع موسيقية بأعداد لا تحصر؟ وبقدر ما يبدو الجواب مركّبا يمكن تبسيطه إلى أن الطفل في داخل أندرسن لم يكبر، وكل شخصياته مأخوذة من الحياة، ولا واحدة منها مخترعة كما قال مرة، وأكثر ما كان يزعجه أنه كان يصنف كاتب أطفال، مع أنه كان يرى كما كتب في «حكاياتي الخرافية هي للكبار كما هي للصغار في الوقت نفسه، فالأطفال يفهمون السطحي منها، بينما الناضجون يتعرفون على مقاصدها ويدركون فحواها» فقضايا مثل صراع الخير والشر في «ملكة الثلج» أو مأساة الطفولة والفقر في «بائعة الكبريت»، أو التضحية والارتقاء الروحي في «الحورية الصغيرة»، أو نبذ الغرور وإدانة النفاق في «ثياب الإمبراطور الجديدة»، لا تزال راهنة جدا تعاني منها المجتمعات المعاصرة أكثر من الزمن الذي عاش فيه أندرسن، وهي مفتوحة على تأويلات عدة وتفسيرات متباينة، وما فعلته هوليوود بقصصه مثل فيلم «فروزن» المقتبس من «ملكة الثلج» ليس سوى نظرة مجتزأة من أعمال أعظم كاتب قصص أطفال كان مؤمنا بموهبته، رغم كل العراقيل، تلخصت حياته في جملة واحدة كتبها مرة: «لا يهم إن وُلدت في حظيرة بط، طالما أنك فقست من بيضة بجعة!».

شاعرة وإعلامية من البحرين



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد