غول الحقد والكراهية في تونس

mainThumb

22-10-2025 10:16 AM

غول مخيف في تونس يزداد ضخامة كل يوم ويهدّد بأكل الأخضر واليابس إذا لم يتداعى الجميع للقضاء عليه، أو على الأقل محاصرته بمنع ما يقتات عليه حتى يصاب بالهزال ويموت.
هذا الغول البشع هو غول الحقد والتباغض بين المواطنين حتى بات الجميع يكره الجميع تقريبا. من ألطاف الله ألا أعراق مختلفة هناك، ولا طوائف، ولا أديان، وخاصة لا سلاح، وإلا كنّا شهدنا هذا المزاج الخطير وقد تحوّل بكل سهولة إلى اقتتال داخلي لا يبقي ولا يذر.
لهذه الظاهرة المقيتة بالتأكيد أسبابها الموضوعية المعقّدة التي تحتاج إلى دراسات معمّقة من خبراء ومختصّين، من علماء اجتماع ونفس ومؤرخين وسياسيين، خاصة بعد خيبة الأمل التي أصابت الكثيرين بعد ثورة 2011، لكن ذلك لا ينفي أن أول من يتحمّل مسؤولية النفخ المستمر في نار الفتنة هذه، وإن لم يكن الوحيد، هو رئيس سلطة الأمر الواقع القائمة حاليا.
من يقف أعلى هرم الدولة غالبا ما يكون هو المبادر الأول بإشاعة روح الأمل والطمأنينة بين أبناء شعبه، ساعيا إلى نبذ كل ما يفرّقهم، عاملا بلا كلل على شحذ هممهم، دافعا إلى الأمام بكل ما هو إيجابي ومنبّها إلى أي موطن خلل في لحمتهم الوطنية… إلا قيس سعيّد فهو لا يفعل شيئا سوى العكس تماما.
الرجل لا يخرج متحدثا إلا عبوسا مكفهرّاً ليُدين ويشتُم هذا وذاك، غاضبا ومتبرّما من متآمرين وخونة يراهم في كل زاوية وفي كل قضية. يرغد ويزبد ويهدّد دائما فلا يتوقف عن النفخ في نار الكآبة والشك لدى الجميع وتجاه الجميع. المخالفون له إما في السجون أو ملاحقون أو ممنوعون من السفر أو مرعوبون صامتون. هم غير وطنيين، كما يراهم، تحركهم دوائر أجنبية ويتمسّحون على أعتاب السفارات، ويريدون تدمير الدولة من الداخل. رجال الأعمال، لا يراهم إلا مجموعة فاسدين ومحتكرين تريد تجويع الشعب والتنكيل به ولهذا فمكانهم الأنسب هو وراء القضبان في انتظار تحري صدق الاتهامات من تهافتها.
المصيبة أن الرجل ليس وحده. صحيح أن قيس سعيّد لا يملك حزبا سياسيا لكنه في المقابل استطاع أن يجنّد وراءه قطاعا من الشعب بات يشبهه في هذا الوسواس القهري. هذا القطاع تحوّل إلى ما يشبه «الكورال» الذي يردّد وراءه كل معزوفة جديدة أو قديمة، ومن بينهم نواب في البرلمان.

إذا اعتقل أحدهم انهالوا عليه بشتى التهم فيدينونه فورا بلا شفقة ولا رحمة، ولو كان ذلك بمجرد شبهات أو إشاعات. وإذا ما صدر الحكم بسجنه هلّلوا له مبتهجين شامتين، آخر همهم معرفة ما إذا كانت المحاكمة عادلة أم لا. حتى حين يبرأ القضاء بعض الموقوفين، ومن بينهم وزراء سابقون، لا ترى أحدا يعتذر عما قاله في حقهم أبدا مثل ما حصل من تبرئة وزير البيئة السابق رياض المؤخر، بعد أن أمضى أكثر من سنتين في السجن.
إذا عانى أحدهم في السجن من مرض أو إعاقة ،لا تبدي هذه «المليشيا» المستنفرة أي مشاعر إنسانية تجاهه. تجلّى ذلك في تعاليق تفيض حقداً وتشفياً قيلت في حق مساجين رجال مسنين، أو أصبحوا على كرسي متحرك، أو حرموا من العلاج، وبعضهم يكاد يكون يحتضر من السرطان الذي يفتك به أو يكاد يفقد بصره، والبعض الآخر حُرم حتى من أدوية تسكين الألم. حصل كل ذلك مع قيادات من «حركة النهضة» من أمثال راشد الغنوشي وقد تجاوز الثمانين بسنوات، أو منذر الونيسي والحبيب اللوز، أو النائب السابق راشد الخياري، أو الصحافية شذى الحاج مبارك، دون أن ننسى ما قيل عن المعاملة المهينة التي تلقَاها المحامية سنية الدهماني في سجنها، وكثير غيرها من بين من سُجنوا في «قضية تآمر» لم تقنع أحدا.
لم تقف الأمور عند مواقع التواصل التي تحوّلت إلى ساحات سحل مخيفة للمعارضين، بل إن الاعلام العام والخاص – وقد فقد كل الحرية التي تمتّع بها بالطول والعرض طوال عشرية الانتقال الديمقراطي (2011-2021)- أصبح بدوره مغذّيا لهذه الشعبوية فلم تعد ترى على أعمدة الصحافة المكتوبة، باستثناء صحيفة واحدة ربما، إلا مقالات المديح المبتذل للرئيس بأسلوب أتعس مما كان مع الراحلين بورقيبة وبن علي، ولم تعد تسمع في الإذاعات إلا هذا النوع تقريبا، ولم يعد يظهر على شاشات التلفزيون الخاصة والعامة سوى بعض «الرموز» التي جمعت مع الكراهية النفاق والشعوذة.
إنه شحن متواصل لا يعرف التوقف يكاد يصل إلى الحث على التباغض والاقتتال العرقي الذي عرفته رواندا قبل حربها الأهلية عام 1994. حتى عندما خرج أهالي مدينة قابس بسبب الاختناق البيئي والسموم التي تبثها مصانع كيمياوية، صوّرتهم نفس «المليشيا» على أنهم متآمرون ومندسّون يتلقون أموالا لبث الفوضى وإحراج السلطة، بعد ما ورد ذلك أيضا على لسان متحدث رسمي باسم وزارة الداخلية التي أطلقت الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين السلميين هناك!!.
حين يكون الجو العام في البلاد مسموماً إلى هذه الدرجة، والمعنويات في الحضيض، والشباب غاضب ومحبط، والسلطة مفلسة ولا تعرف سوى القمع وإطلاق الوعود الكاذبة، والحياة السياسية ميتة، والقضاء مشلول، والاعلام كاذب ودجّال، وأفاق التجاوز مسدودة بالكامل، والضائقة المعيشية في تفاقم متزايد، فإن الخطر القادم قد يكون أسوأ كثيرا مما نتوقع.

كاتب وإعلامي تونسي



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد