عن أرض الصومال وجبل باشان وزوبعة توم برّاك

عن أرض الصومال وجبل باشان وزوبعة توم برّاك

13-12-2025 02:34 PM

شهد كاتبُ هذه السطور في الأسابيع الخوالي استياء طالبة جامعية في بيروت، عند المناداة عليها لاستلام شهادتها في حفل تخرج، من التعريف بها على أنها قادمة من الصومال، ومسارعتها الى تصويب الأمر على أنها مواطنة من «أرض الصومال». الكيان غير المعترف به دولياً الى الحين، إنما الذي تُخاطر كلٌ من ادارة دونالد ترامب والحكومتين البريطانية والأثيوبية بالاعتراف به، مقابل استضافة قاعدة عسكرية بالنسبة للأمريكيين، وعلى أساس العلاقة الكولونيالية التاريخية مع هذه المستعمرة السابقة بالنسبة الى الانكليز، وفي مقابل منفذ بحري بالنسبة الى أثيوبيا التي فقدت واجهتها البحرية بعد انفصال إريتريا عنها.
في المقابل، تتصدى الصين لأي تكريس لانفصال صوماليلاند عن بقية الصومال، لأن في مثل هذه الخطوة تسويغ لانفصال تايوان عن برّ الصين.
لم تكد تمر مشهدية هذا الاستياء الذي يختزن ما في ذاكرة «الأرض صوماليين» – سكان المستعمرة البريطانية السابقة من احتقان تجاه الصومال – المستعمرة الإيطالية السابقة، حتى جاء اختبار شبيه، عبر مواقع التواصل هذه المرة: اداء لأغنية فهد بلان «عا البال بعدك يا سهل حوران» إنما من بعد إدخال تعديل على الكلمات لتصبح «يا جبل باشان».
وباشان مصطلح جغرافي تقريبي توراتي، يمتد ليشمل من الجولان وحوران الى شمالي غرب الأردن الحالي، الاقليم المناط بـ»عوج ملك باشان من بقية الرفائيين» كما جاء في العهد القديم، والناحية المعطاة لسبط منسى في القسمة بين أسباط بني إسرائيل، وهو المجال الموافق لمُلك الغساسنة في العصر القديم المتأخر، وربما كانت «بيسان» هي تحوير لباشان. لكن الاسم لم يعد استخدامه خارج حقل الدراسات التوراتية في حديث العهود الا حين أطلقت اسرائيل على توغلاتها في سوريا بعد سقوط نظام آل الأسد تسمية «عملية سيف باشان». كان هذا قبل أن تعتمده جماعة الشيخ حكمت الهجري في إثر الأحداث التنكيلية بدروز السويداء اسماً لكيان «دولة جبل باشان»، التي لم يعرف بعد إن كانت تعني محافظة السويداء فحسب، وحينها ما مصير دروز جرمانا وصحنايا؟ ليس قليلاً أنه بعد ثنائية تسميَتي «جبل الدروز» و»جبل العرب» يتم اعتماد تسمية جبل باشان في مئوية الثورة السورية الكبرى التي انطلقت من السويداء لتمتد الى دمشق. هذه الثورة السورية الكبرى لعام 1925 قلّما جرى الاشتغال بعقلية بحثية جدية على التمييز بصددها بين حيثياتها التاريخية وبين الأساطير المنسوجة حولها، وإنْ كانت قد أظهرت بحد ذاتها هشاشة التقسيم الاستعماري الفرنسي لسوريا بين دول إدارية على أساس مناطقي أو طائفي، مثلما أظهرت هشاشة التجاوز الفعلي لهذه التقسيمات وطغيان منطق أنّ الجماعات الأهلية في هذه البلاد إما تكون متغلّبة أو مَغلُوبة، ليس هناك من احتمال ثالث. وبما أن جمهور الدروز السوريين لم يفهم لماذا ارتدّ انقلاب التغلب من فئة الى أخرى في دمشق اجتياحاً لمناطقهم، وتحريقا لقراهم، مع أنهم ما كانوا محسوبين بالكلية على التغلب المتداعي، فقد زكّى ذلك لدى جزء مُعتبر منهم خيار الانفصال الفوري، من جانب واحد، على اعتبار أن لا عقد اجتماعياً – وطنياً سورياً يمكن ارتجاؤه من الآن فصاعداً، لتنضّم باشان العتيدة الى لفيف من الكيانات المعلنة من جانب واحد في غير مكان من العالم، ولتُقارن على الأرض السورية بكيان روجافا / قسد. وهذا شأن صوماليلاند قبل سواها. مع أن مساحة جمهورية أرض الصومال تقترب من مساحة سوريا بأكملها في مقابل عدد سكان قريب من نظيره في لبنان.
ثلاثة عقود ونصف تفصل بين انفصال أرض الصومال والتعديل على أغنية فهد بلان. هناك من استشاط غضباً لأنه جرى تحريف الأغنية من سهل حوران الى جبل باشان، وهناك من ذكّر بالهوية الدرزية للفنان السوري، معتبراً أنه اذاك فنان «باشاني» ولو بمفعول رجعي.
لم تتبدل في هذه الحقبة من التاريخ – بين ظهور أرض الصومال وظهور دولة جبل باشان – خرائط الشرق الأوسط على نحو واسع رسمياً، باستثناء استقلال جنوب السودان. لكن الدول الوطنية اضمحلّت من الصومال الى العراق فسوريا فاليمن فليبيا ومن ثم السودان مجدداً، بنتيجة الحروب الأهلية والتدخلات الاستعمارية الجديدة المباشرة ، وبنتيجة المكابرة على التعدديات الاثنية والدينية والمناطقية من جهة، أو تعظيمها على نحو جوهراني، انطوائي.
باستثناء مصر وتونس والمغرب لا يبدو أن الدولة – الأمة قد نجح زرعها في البلدان المنتسبة الى جامعة الدول العربية. في الوقت نفسه، المراجعة الخرائطية الكبرى لم تحدث بعد، وثمة عراقيل كثيرة تحول دونها. أما الفدرالية، التي لم تعد كلمة «تابو» منذ الإقرار الدستوري العراقي بها بعد الإسقاط الأمريكي لصدام حسين، والتي لم تُفلح محاولة الاقلاع بها لا في العراق، ولا في اليمن، ولا في السودان، رغم الإقرار الرسمي لها أو استحسانها، فإنها لا تزال مفهوماً لم ينشط بالحد الكافي كي يكون مدخلاً للحل الوطني الديموقراطي في أوضاع معظم بلدان المنطقة. «عسر هضم» الفدرالية هنا، واستمرار رجمها هناك، أعاد تزكية النزعات الانفصالية.
المفارقة أنه، في وقت تنتعش فيه هذه النزعات، من دارفور الى باشان الى روجافا، فان المبعوث الترامبي الخاص توم برّاك، اللبناني الأصل، لا يترك مناسبة الا ويتطرق فيها لأهمية مراجعة «نظام التجزئة» الذي يفصل لبنان عن سوريا. وهذا فتح الباب لبنانياً للتندر، ومقارنة كلام برّاك مع أدبيات القوميين الاجتماعيين. هذا ما يدفع لإعادة قراءة ما كتبه انطون سعادة قبل قرن من الآن ونيّف، في مقالته «سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية الأدبي» – يقصد الأخلاقي بمصطلحات اليوم. حيث كتب: «الولايات المتحدة هي الدولة التي كان يرجو العالم أن تكون صلة التفاهم السياسي والأدبي بين الشرق والغرب، فخيّبت رجاءه بصورة محزنة جداً. والشرق الذي كان يعتبر الولايات المتحدة صديقة له، يرى الآن أنّ هذه الصديقة لا تَفرق في شيء عن أخواتها الغربيات الطامعات في التلذذ بالاستعمار والاستعباد. فإذا نفر الشرقيون من الولايات المتحدة بعد ما بدا لهم منها، فالذنب في ذلك ليس ذنبهم، بل هو ذنب الولايات المتحدة وحدها.
فالشرق كان يريد أن يحب الولايات المتحدة وأن يحتفظ بصداقتها، ولكنها هي التي صرمت حبال المحبة وأبت أن تكون محبوبة ومحترمة من الشرقيين.» كانت الخيبة وقتها، لأن أمريكا وبعد اتصالها بمبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها، ومبادئ الرئيس ويلسون، ارتضت بالتقسيم الكولونيالي للمشرق بين الفرنسيين والانكليز. اذا؟ هل يوحي توم برّاك، بهذا المعيار، لشبهة عودة الولايات المتحدة الى «عالم الإنسانية الأدبي»؟ بل يوحي، أكثر ما يوحي بالتعادل والتماثل بين خطاب التشكيك في واقعية الفصل الكياني بين سوريا ولبنان وخطاب تسويغ النزعات الانفصالية كما خطاب الوحدات الوطنية الفاقدة لشروطها أو المتطلعة عبثاً الى تحقيق ذاتها بالتغلب الفئوي. لكن هذا التماثل ليس مطلقاً.
إذا كان أهل الصومال البريطاني السابق، أرض الصومال، يشعرون فعلا بأنهم استُعمروا بعد الاستقلال الوطني عن الاستعمار من قبل الصومال الايطالي السابق، فمعنى هذا أنه، ومنذ رحيل المستعمر القادم من وراء البحار، وهذه المجتمعات تزاول لعبة من يرث المستعمر من بين السكان الأصليين يا ترى. بدل خطابية استعمار في مقابل تحرر وطني، صرنا الى وضعية جماعات تستشعر الواحدة أنها إمّا ضحية استعمار فئة بلدية أخرى، وإمّا منتدبة لتحرير الفئات الأخرى، من نفسها في غالب الأحيان، ورغما عنها بطبيعة الحال.

كاتب من لبنان



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد