هل الشرق الأوسط مُقبلٌ فعلاً على استقرار وازدهار

هل الشرق الأوسط مُقبلٌ فعلاً على استقرار وازدهار

13-12-2025 02:39 PM

في 2025، طرحت الإدارة الأمريكية رؤية تعبّر عنها بأن الشرق الأوسط «يمكن أن يصبح منطقة شراكة، صداقة، واستثمار»، بدلاً من أن يكون ساحة أزمات مستمرة. في هذا الإطار، بدأت واشنطن خطوات عملية تجاه سوريا: أول زيارة لرئيس سوري إلى واشنطن منذ عقود، ورفع للعقوبات وخاصة قانون قيصر، وتصريحات أمريكية وردية دعماً لوحدة الأراضي السورية، لا بل إن الرئيس ترمب يراهن على دور سوري نشط في تحقيق الاستقرار في لبنان والعراق، وحوار دبلوماسي مع القيادة السورية الجديدة، مما أثار أملاً بتحول نحو إعادة إعمار سوريا.
أيضاً يبدو أن مسار السلام/التسوية اندمج في أولويات أمريكية إقليمية: ففي 2025 قدّمت الإدارة الأمريكية خطة سلام متعددة النقاط لإنهاء الحرب في غزة، تسعى من خلالها إلى تقليل التصعيد، وتأسيس تفاهمات طويلة الأجل. كذلك، ثمّة تركيز على الشق الاقتصادي: تحوّل العلاقة مع الشرق الأوسط من تدخل أمني – عسكري، إلى ما يمكن تسميته «دبلوماسية اقتصادية» — الاستثمار، سلاسل توريد، استقرار البنى التحتية والتنمية.
هذه المؤشرات تدل أن هناك على الأقل محاولة رسم منظور جديد لدور أمريكا في المنطقة – ليس بالضرورة «وصيّاً» أو «محتلاً»، بل كشريك اقتصادي ودبلوماسي -وهو تغيير مهم مقارنة بسياسات تدخل مباشر أو هيمنة عسكرية كما في العقود الماضية.
هل يمكن تحويل التصريحات بالضرورة إلى استقرار دائم؟ رغم هذه المؤشرات، توجد عدة ملاحظات جوهرية تجعل من الصعب الاعتماد على أن كل التصريحات ستترجم إلى استقرار وازدهار: أولويات أمريكية متجددة وتنافس مصالح متعددة: بحسب الوثيقة الأخيرة للأمن القومي الأمريكي (NSS 2025)، السياسة الأمريكية اليوم تتجه نحو «أمريكا أولاً» (America First) — بمعنى تخفيض الالتزامات الخارجية، وتعظيم التركيز على المصالح الأمريكية مباشرة. هذا التوجه قد يعني أن دعم الاستقرار في الشرق الأوسط لن يكون دائماً مرتبطاً بالقيم أو السلام أو تنمية محلية بقدر ما هو مرتبط بمصالح أمريكية: أمن إمدادات الطاقة، استقرار السوق العالمية، حماية الاستثمارات الأمريكية…

الوثيقة الجديدة للأمن القومي تشير إلى تقليص الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط على المدى الطويل، ما يعني أن أي استقرار يُبنى الآن يحتاج لاتحاد محلي/إقليمي ، وليس على ضمان أمريكي دائم

ولا ننسى التصادم بين مصالح أمريكا وحلفائها الإقليميين، فحتى عندما تدعو واشنطن إلى تقييد تدخلات مثل تدخلات إسرائيل في سوريا – كما حصل في رسالة حديثة للرئيس الأمريكي يطلب فيها من إسرائيل توخّي الحذر في سوريا، فإن الواقع على الأرض (نزاعات نفوذ، مصالح أمنية إسرائيلية، تنافس إقليمي) يجعل من تطبيق هذه التوصيات معقّداً للغاية. وحتى إن وُجد دعم أمريكي لإعادة إعمار سوريا، فإن الأوضاع في سوريا وأعماق الأزمة فيها – طائفية، عقوبات قديمة، دمار واسع للبنية التحتية، مأساة إنسانية – تشكّل عائقاً كبيراً أمام تنمية حقيقية سريعة. علاوة على ذلك، بعض الجماعات المحلية (مثل ما يُسمى قوات سوريا الديمقراطية – قسد) تُصرّ على حقوق ومكاسب اكتسبتها، ما يجعل أي اندماج سريع في الدولة السورية أمراً مُعقداً.
ولا بُدّ أن نأخذ في الاعتبار أيضاً محدودية رؤية أمريكية طويلة الأجل: حتى لو تبنّت واشنطن بعض خطوات الاستقرار الآن، فإن استراتيجية «الربط بالمصلحة الأمريكية» لا تضمن استمرار الالتزام (السياسي أو الاقتصادي) لسنوات طويلة، خاصّة إن تغيرت أولويات داخلية في أمريكا (اقتصاد، سياسة داخلية، انتخابات).
وهناك أمثلة ملموسة تعكس التناقض بين التصريحات والواقع، فبعد رفع العقوبات عن سوريا، بدأت أصوات تقول إن هناك فرصة لإعادة الإعمار وجذب استثمارات خليجية أو غربية ، لكن في الواقع، تحقيق ذلك يعتمد على استقرار أمني شامل، إصلاح بنيوي، وضمان حقوق جماعات عرقية وطائفية داخل سوريا (وهو ملف حساس للغاية).
في المسار الفلسطيني – كما في حرب غزة 2025 – الإدارة الأمريكية دفعت نحو خطة سلام وسَعت لتهدئة الحرب، لكنها لم تضع ضمانات واضحة لحقوق الفلسطينيين أو لدولة فلسطينية مستقلة. من جهة أخرى، فإن الوثيقة الجديدة للأمن القومي تشير إلى تقليص الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط على المدى الطويل، ما يعني أن أي استقرار يُبنى الآن يحتاج لاتحاد محلي/إقليمي ، وليس على ضمان أمريكي دائم.
ما مدى إمكانية بناء مستقبل مستقر ، هل الطريق ممكن؟ وما المطلوب؟ لكي تتحول التصريحات أو الدوافع الأمريكية إلى استقرار وازدهار حقيقي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا يكفي أن تتغيّر أولويات أمريكا.
المطلوب إصلاحات محلية: دول مثل سوريا والعراق ولبنان تحتاج إلى بناء مؤسسات شفافة، إعمار، تنمية اقتصادية، عدالة اجتماعية. يجب أيضاً توفر تنسيق إقليمي مستقل، فلا يمكن الاعتماد كليّة على واشنطن – بل يجب أن يكون هناك تعاون عربي إقليمي، مشاركة دولية بنّاءة، وإمكانات استثمارية من دول الخليج والدول الغربية. ولا بُدّ من وجود ضمانات أمنية داخلية كإنهاء النزاعات الطائفية/العشائرية، حماية الأقليات، إعادة الدمج الفعلي لمختلف الجماعات ضمن الدولة، مثلاً «قسد» أو غيرها في سوريا.
جدير بالذكر أيضاً أن استراتيجية تنمية طويلة الأجل لا تستند على استثمار مؤقت أو معونات، بل على إصلاح اقتصادي، تنمية بنى تحتية، تعليم، ظهور قطاعات إنتاجية مستدامة. وإذا توفّرت هذه الشروط – ويمكن أن تتحقّق في بعض الدول (أسهل في دول أقل تشظياً من سوريا مثلاً) – فإن ما نراه اليوم من إشارات أمريكية قد يشكل نقطة انطلاق فعلية نحو استقرار جزئيّ أو مرحلي. أما في دول غارقة بعوامل تعقيد عميقة، فالاعتماد على التصريحات وحدها لن يكون كافياً.
لهذا فنحن نراوح في منطقة تقع بين الأمل والحذر. إنه منحى مهم ومثير للاهتمام: واشنطن – كما تبدو اليوم – تحاول إعادة صياغة دورها في الشرق الأوسط: من تدخل مباشر وصراعات مفتوحة، إلى شراكة اقتصادية، استقرار، دبلوماسية. هذا التحوّل يحمل فرصة حقيقية لإعادة إعمار الدول المتضررة، تهدئة نزاعات، وفتح آفاق تنمية. لكنّ الواقع السياسي، الإقليمي، الداخلي في دول المنطقة، معقدٌ للغاية ، والتحديات عديدة. لذا من الحكمة أن ننظر إلى هذه التصريحات كـ «فرصة محتملة» – وليست كضمانة مطلقة – للاستقرار والازدهار.

كاتب وإعلامي سوري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد