عيون العجائب .. في عشق المتنبّي

mainThumb

27-10-2025 09:45 AM

حينما استعرض ابن رشيق القيرواني الشعراءَ في كتابه النقدي «العمدة»، وأتى على ذكر المشاهير منهم، كأبي نواس والبحتري وابن الرومي، عقّب بجملة لا تزال تتردد أصداؤها من ألف عام، فكتب: «ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس»، فلم تعرف العربية شاعرا شغل الناس في حياته وبعد مماته إلى يومنا هذا، أي على امتداد أحد عشر قرنا، مثل المتنبي، ويكفي أن ديوانه إلى زمن ابن كثير كان قد شرحه «العلماء بالشعر واللغة نحوا من ستين شرحا وجيزا وبسيطا»، ولا تكاد تخلو سنة من طبعات جديدة لديوانه وترجمات لأشعاره وكتبٍ تؤلَّف عنه، وانتقلت العدوى إلى وسائل التواصل فأنجز الروائي الأردني أيمن العتوم 520 حلقة على اليوتوب تناول فيها حياة المتنبي وشرح ديوانه.
ولو تفحصنا حصيلة عام إلى الوراء، لعثرنا على عدة مؤلفات نعُدُّ منها ولا نعدّدها، كتاب «اللابس المتلبّس من أوراق أبي الطيب المتنبي» لعبد الله الغذامي، وكتاب «المتنبي في مرآة الاستشراق» لحمزة أمين.

ومما صدر هذه السنة عن «مركز أبوظبي للغة العربية» في 300 صفحة من القطع الكبير، كتاب «عيون العجائب في ما أورده أبو الطيّب من اختراعات وغرائب» لعلي بن تميم المعروف بولعه بالمتنبي، فقد قدّم عنه من قبل برنامجاً تلفزيونياً بعنوان «من طيّبات أبي الطيب»، كان الحافزَ الأساسي للغذامي لتأليف كتابه عن المتنبي، كما ذكر في مقدمته: «أسجل شكراً خاصاً للصديق علي بن تميم لتحريضه لي بجمع هذه التوريقات عن المتنبي، عبر تصديه المثير لقراءاتٍ لشعر المتنبي.. ما جعلني أرى المتنبي عبر صوت علي بن تميم»، وقد زَينت كتابَ «عيون العجائب» لوحات كثيرة للفنان التشكيلي العراقي محمود شوبر أبرزها، لوحة الغلاف وهي للمتنبي على حصانه يحمل بيمينه كتابا في تجسيد بصري لبيته الشهير: (أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ/ وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ).
أول ما يستوقفنا في كتاب علي بن تميم عنوانه المسجّع، الذي استلهمه من قول المتنبي نفسه: (إِلَيّ لَعَمري قَصدُ كُلِّ عَجيبَةٍ/ كَأَنّي عَجيبٌ في عُيونِ العَجائِبِ)، وما أظن المؤلّف لجأ إلى تسجيع العنوان إلا إحياءً لسنّة اندثرت نتيجة انفتاح الأدب العربي على الغرب فعلى امتداد قرون طويلة كان العنوان المسجّع هو الأصل، وما شذت عنه إلا عناوين قليلة، وإشارةً إلى أن موضوع الكتاب له علاقة بالتراث، فالأولى أن ينسجم مع روحه، من دون أن يغفَل المؤلف عن راهنيّة اللفظة، فقد ذكر بأنها «رغم جذورها الممتدة في تاريخ الأدب العربي، إلا أنها ما زالت تتمتع بسمة المعاصرة».

«عيون العجائب» في أصله تحليل لـ«أربعين بيتاً/شاهداً مما قاله المتنبي يحوي كلٌّ منها اختراعاً شعرياً لم يأت به غيره، وابتكاراً حار لأجله الشّراح، وطرحاً شعرياً ونقدياً وفكرياً وحضارياً، كان له السبق فيه»، كتب المؤلف بين يدي شرح وتحليل هذه الأربعين المختارة مقدمة ضافية من 55 صفحة عمودها الفقري عن «مفهوم الاختراع الشعري» كما عنونها. وبرّر وجودها في العنوان وقيام كتابه عليه، بأنها من الأوصاف التي وردت عند شراح ديوان المتنبي من القديم إلى عصر النهضة، فهذا الواحدي، وهو من أقدم شراح ديوان المتنبي يقول في شرح أحد الأبيات «أما اشتكاء السبل فهو من اختراعات المتنبي»، ونجد اللفظ نفسه عند الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري، وهو من شارحي ديوان المتنبي المعجبين به حين قال: «وهذا من اختراعات المتنبي وفرائده»، وهو ما كتبه شارح متأخر بعد ذلك بمئات السنين، هو اللبناني ناصيف اليازجي، إذن لفظة الاختراع متداولة في وصف بعض أبيات المتنبي، ولكن ماذا تعني تحديدا؟ يلاحق علي بن تميم هذا المصطلح عند العرب والغربيين لتأصيله ابتداء من اشتقاقه اللغوي من الخرع بمعنى اللين، ثم يقوم بحفريات في الآداب الغربية منذ الإغريق والرومان، الذين كانت المحاكاة عندهم، أي البناء على نموذج سابق هي المعيار في الجودة الفنية، فأنتجوا نصوصا أصبحت بدورها المثال الكلاسيكي الذي تتبعه أدباء عصر النهضة. إلى أن ظهر مفهوم الاختراع في القرن السادس عشر بوصفه «شرطا من شروط الشعر»، وتركت المحاكاة مكانها للأصالة في أدب الرومانسيين، وأصبح الاختراع غاية الأدب والشعر خصوصا، ينتصر له الشعراء والنقاد الغربيين مثل كولريدج وشيلي ووردزوورث وكروتشه.
وبعد هذا التطواف الغربي يعود بنا المؤلف إلى مفهوم الاختراع في الأدب العربي القديم، حيث ذكره أبو هلال العسكري، في حين خصص ابن رشيق في عمدته فصلا عَنونَه بالمخترع والبديع فـ»المخترع من الشعر هو ما لم يسبق إليه قائله، ولا عمل أحد من الشعراء قبله نظيره، أو ما يقرب منه»، ونجد تتبعا من المؤلِّف لهذا المصطلح عند ابن الأثير والقلقشندي، وصولا إلى مصطفى صادق الرافعي.

كل هذه المقدمة الطويلة عن مفهوم الاختراع الشعري، التي تصلح أن تستقل بنفسها وتُوسَّع لتصبح كتابا منفردا، كُتبت لتوصلنا إلى ما وصف به الكاتبُ المتنبي بأنه «النموذج الأمثل حين يتعلق الأمر بالحديث عن الاختراع»، ففي فصل من المقدمة بعنوان «أبو الطيب: دراسة حالة»، يرى بن تميم أن الاختراع يُجاوز شعر المتنبي إلى سيرته، فأصله ونسبه ومعتقده كانت كلها مثار جدل في حياته، وقد أسهم المتنبي نفسُه في إشاعة هذا الغموض، فكان «لطبيعة تكوينه يحرص على ترك الأبواب مواربة، بل مفتوحة على التأويل والاختراع في سيرته»، يلخص ذلك المؤلف في جملة مكثفة تقول: «لو لم يكن المتنبي مخترِعاً عبقرياً لما صار مخترَعاً». فقد كان أبو الطيّب واعيا وعن سبق إصرار وترصد حين خالف نهج الشعراء المألوف قبله، واختط سبيلا مختلفة بعيدا عن شكوى عنترة (هل غادر الشعراء من متردم)، أو استسلام كعب بن زهير (ما أرانا نقول إلا معادا)، أما المتنبي فقد جعل عالمِا مثل العكبري يقول عن شعره، «فهذا الذي لم يأت شاعر بمثله»، ودفع ألدّ خصومه الصاحب بن عباد، أن يؤلف كتابا عنه بعنوان «الأمثال السائرة من شعر المتنبي». كل هذه الآراء التي أوردها المؤلف في مقدمته الطويلة دفعته إلى أن يقول بيقين، «لو سحبنا ديوان أبي الطيب من المكتبة الشعرية فإن عمودها القوي سينهار».

حين نصل إلى القسم الثاني الأكبر من الكتاب، وهو أبيات المتنبي الأربعين والدلالة على وجوه الاختراع فيها، يتبع بن تميم منهجا موحدا، حيث يضع عنوانا يلخص فكرة البيت، ثم يشرح ما تعسّر من ألفاظه ومعانيه مستأنسا بشارحي ديوان المتنبي مرجّحا رأيا على آخر إن اختلفوا، ثم يبين وجه الاختراع في البيت، وكأنه لم يقنع بأن يكون العنوان مسجّعا، فاتبع أحيانا طريقة جاحظية في التأليف، ففي الكتاب كثير من الاستطرادات، مثال ذلك حين يورد بيت المتنبي (وَشِعرٍ مَدَحتُ بِهِ الكَركَدَنَّ/ بَينَ القَريضِ وَبَينَ الرُقى) يستطرد فينقل وصف الكركدن عند البيروني، ثم ينتقل إلى تتبع بعض الألفاظ الغريبة في شعر المتنبي. ونجد في الكتاب كذلك استطرادا من صفحة ونصف عن ورود صيغة «أفعل» في كلام العرب، وآخر عن الحكمة في شعر المتنبي مع إيراد أمثلة كثيرة، وفي هذه الاستطرادات فوائد تشبع فضول القارئ، وتغري المتخصص بالبحث. وما يفاجئنا في الأبيات الأربعين المختارة، أنها ليست جميعها من أبيات المتنبي السائرة، بل بعضها يبدو عادياً حتى لا نقول ركيكاً كقوله: (وحَمدانُ حَمدونٌ وحمدونُ حارثٌ/ وحارثُ لقمانٌ ولقمانُ راشِدُ) لكن تفسير المؤلف أعطى البيت بعدا آخر حين كتب «اتفق لأبي الطيب في هذا البيت ما لم يتفق لغيره من تشبيه الممدوح بأبيه ومن تشبيه أبيه بجده حتى استوفى سبعة أجداد في النسب وعشرة في المقابلة»، رغم أن النقاد القدامى انتقدوا البيت، ومنهم ابن جني.

لكن في المقابل نتوقف عند أبيات صنعت عظمة المتنبي كشف لنا بن تميم عن جوانب الاختراعات فيها، كالاختراع البلاغي في جمع خمس متقابلات في قوله: (أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي.. وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي) أو الاختراع العروضي، حين اتخذ من الألف المقصورة قافية في قوله (أَلا كُلُّ ماشِيَةِ الخَيزَلى.. فِدا كُلِّ ماشِيَةِ الهَيذَبى)، ومن طرائف اختراعات المتنبي بيته العجيب (عِشِ اِبقَ اِسمُ سُد قُد جُد مُرِ اِنهَ رِفِ اِسرِ نَل/ غِظِ اِرمِ صِبِ اِحمِ اِغزُ اِسبِ رُع زَع دِلِ اِثنِ نُل) فقد أنشد بيتا من 14 فعلا فلما رآهم في مجلس سيف الدولة يعدّون ألفاظه زاد فيه وأوصله إلى 16 فعلا، فلما رآهم يستكثرون حروفه وأفعاله قال بيته هذا المكوّن من 24 فعلا تحديا لنفسه قبل أن يتحداهم. وينحاز بن تميم إلى قول المتنبي عن الخيل (وَما الخَيلُ إِلّا كَالصَديقِ قَليلَةٌ.. وَإِن كَثُرَت في عَينِ مَن لا يُجَرِّبُ) فكلاهما محبّ لها يكشف لنا هذا الإعجاب ما كتبه المؤلِّف من أن «هذا بيت فريد يعرف معناه كلّ من يعرف الخيل، كلّ من رباها وسار بصحبتها وعرف أخلاقها ونبلها وحزن إذا أصابها مكروه وواسته إذا رأته حزينا».
لا يخفي بن تميم عشقه لشعر المتنبي – مثل جمعٍ من الأدباء والشعراء منذ ابن الجني والمعري إلى الوزيرين غازي القصيبي ويوسف الشيراوي- ويجهد في كتابه أن ينقل هذا العشق إلى قارئه، جاهدا ما استطاع أن يكتب بموضوعية وعقلانية عن المتنبي، رغم أن عاطفته تغلب لغته أحيانا فيكتب عن موت المتنبي «سقط تاج العربية وانكسر وتناثر أشلاء في جسد الشعرية، مع رحيل من لم يأت من سبقوه أو لحقوه بما جاء به». ولكن هل هذا كثير على شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس؟!

شاعرة وإعلامية من البحرين



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد