مسلسلات استنساخ كورش

mainThumb

27-10-2025 09:44 AM

إذا صحّ أنّ عظام كورش/ قورش/ سيروس الكبير (600 ـ 530 ق. م.)، أوّل ملوك فارس والأعظم من دون منازع، راقدة بالفعل داخل المقبرة التي تحمل اسمه في مدينة باسركَارد الإيرانية؛ فلعلها تتقلب اليوم من كثرة ما يُقلّب كورش نفسه على أيدي مَنْ هبّ ودبّ هنا وهناك، لأغراض سياسية أو قومية أو دينية، رمزية تارة وتعبوية طوراً، وتحريفية في معظم الأحوال. وكيف لا تتململ تلك العظام و»ملك العالم»، كما يقول أحد ألقابه التبجيلية الكثيرة، يُعاد إنتاجه في مخيّلات فاشية أو خبيثة أو جاهلية أو شعبوية، على شاكلة بنيامين نتنياهو أو دونالد ترامب أو محمود أحمدي نجاد و… بشار الأسد؟
ويندر، بالطبع، أن يُستعاد كورش بوصفه مؤسس إمبراطورية فارس الأخمينية، التي قامت أساساً على أنقاض ثقافات وشعوب وأمم كثيرة، في العهود الأقدم من سوريا وبلاد الرافدين والأناضول وليديا وفلسطين ومصر وليبيا وتخوم الهند ومقدونيا؛ بل ينحصر استذكاره، أو بالأحرى إعادة إنتاجه، في ملفّ أوّل طاغٍ، يفيد بأنه محرّر يهود بابل الذي أنهى ما ألحقه بهم نبوخذ نصّر من تقتيل وخراب هياكل ونفي من أورشليم؛ وبأنه، ثانياً، أحد أعلى أيقونات القومية الفارسية شأناً وتعظيماً. ولقد خضع استطراداً، وفي الحالتين، إلى رداءة تفاسير منفلتة من كلّ عقال، وجرى الزجّ به في سياقات لا تضحك حتى القهقهة فحسب، بل لعلّ بعضها مدعاة رثاء لحال الرجل، وإشفاق على ما يُنزل به من إسفاف وابتذال.
الأحدث في هذه السيرورة، لأنها ليست ظواهر مؤقتة أو عابرة، لافتات ملأت شوارع دولة الاحتلال الإسرائيلي، تقول: «كورش عاد حيّاً»؛ نسبة إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يرى حاملو اللافتات تلك أنه قام بأدوار الملك الأخميني في إنقاذ اليهود من سبي جديد، خططت له حركة «حماس» في مستوطنات غلاف غزّة/ بابل الجديدة! فإذا وضع المرء الهَبَل جانباً، ومعه الهستيريا الإسرائيلية المعتادة بصدد حشد نصوص توراتية لتسخيرها سياسياً ودينياً في وظائف زائفة؛ فإنّ محتوى اللافتات كان يذهب بعيداً، لأنه يرتدّ قديماً، إلى سفر إشعياء ـ الإصحاح 45: «هكذا يقول الرب لمسيحه، لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمماً، وأحقاء ملوك أحل، لأفتح أمامه المصراعين، والأبواب لا تغلق. أنا أسير قدامك والهضاب أمهد. أكسر مصراعي النحاس، ومغاليق الحديد أقصف. وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابئ، لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك».
قبل هؤلاء، وخلال العدوان الإسرائيلي الأخير على إيران أواسط حزيران (يونيو) الماضي، كان نتنياهو قد سعى بنفسه إلى دغدغة المشاعر القومية لدى الشرائح الفارسية/ القوموية في الشارع الإيراني، هكذا: «أتوجّه إلى الشعب الفارسي المضطهد والمقموع، كل ما نقوم به يزعزع حكم خامنئي (…) كورش الملك حرّرنا نحن اليهود، وربما نحن الآن سنحرر الفرس». ولا مفاجأة في أنّ العزف على ذلك الوتر كان كفيلاً باستقطاب شرائح واسعة لدى جمهور نتنياهو الليكودي، أو أحزاب التطرف الديني والقومي والعنصري وأنصار إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش؛ وليس في داخل إيران، سواء في صفوف المتفاخرين بالملك الأخميني الفارسي، أو حتى ما تبقى في البلد من جالية يهودية.
وذات يوم غير بعيد، حين كانت الانتفاضة الشعبية السورية في أشهرها الأولى، كتب الأمريكي يان ستدلر مقالة بعنوان «الأسد: نموذج حديث من قورش الأكبر بالنسبة إلى المسيحيين»، نشره موقع Faith & Heritage، والذي يختصر رسالته في شعار يتصدّر الموقع: «مسيحية غربية من أجل الحفاظ على ثقافة الغرب وأهله». ولقد عقد ذلك العبقري المقارنة التالية: «الله استخدم الملك كورش الأكبر لحماية اليهود المضطهَدين، والسماح لهم بالعودة إلى الأراضي المقدسة وإعادة بناء الهيكل. و[بشار] الأسد تصرّف بطريقة مماثلة، فأتاح للمسيحيين أن يكونوا آمنين مطمئنين في بلد يهيمن عليه الإسلام»! كان من قبيل العبث أن يُسأل ذلك المتهبّل عن العلاقة بين اليهود والمسيحيين هنا، أو عن «الأراضي المقدسة» التي تكفّل كورش/ الأسد بإعادة المسيحيين إليها، أو عن «الهيكل» المسيحي الذي أعادوا بناءه؛ وعبث قبلئذ وأساساً أن تُطلب من ستادلر معلومة واحدة دقيقة حول تاريخ المسيحية في سوريا.
يبقى، ضمن مسلسلات استنساخ كورش، الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد وزيارته المشهودة إلى المتحف الوطني الإيراني، بمناسبة عرض أسطوانة قورش الأكبر الشهيرة، التي تعود إلى القرن السادس قبل المسيح؛ معارة مؤقتاً من المتحف البريطاني، للمرّة الثانية في الواقع، لأنّ الأسطوانة زارت إيران سنة 1971، خلال احتفالات الشاه محمد رضا بهلوي بالذكرى الـ 2500 لقيام النظام الشاهنشاهي. أحمدي نجاد أغدق المدائح على كورش، الأمر الذي بدا مستغرباً من رئيس نظام حرص رسمياً على تخفيض نبرة التغنّي بماضي الفرس قبل الإسلام؛ ولا أحد، سوى السذّج، غاب عنه المغزى السياسي خلف الزيارة، وتبجيل ملك وثني في نهاية المطاف (كما شدّد، حينئذ، آية الله صادق خلخالي، الذي أضاف أنّ قورش كان «مثلياً» و»عابد نار»).
الأرجح، بذلك، أن المسلسلات الكورشية سوف تتكرر، والعظام في مقبرة باسركَارد ستبقى على سخط وارتجاج!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد