رقاد العالم ويقظة ألبانيزي

رقاد العالم ويقظة ألبانيزي

15-12-2025 03:31 PM

الإيطالية فرنشيسكا ألبانيزي هي اليوم الثامنة التي تتولى موقع المقررة الأممية الخاصة بالوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ولكن الأولى المرأة في الوظيفة، منذ إنشاء هذه المهمة في سنة 1993 بقرار من هيئة (وصارت راهناً مجلس) حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة. وإلى جانب مكانتها كباحثة مرموقة في ميادين حقوق الإنسان ومسائل الهجرة والقانون الدولي، فإنّ قسطاً غير قليل من شهرتها على النطاق الدولي راجع إلى أنها الشغل الشاغل لحملات مجموعات الضغط الصهيونية في طول العالم وعرضه؛ بسبب تقاريرها التي تدين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي العنصرية والاستيطانية، في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة.
ولأنها في هذه السياقات تحديداً، بين الأعلى صوتاً والأوضح مفردات في تسمية حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة بمسمياتها الفعلية، أو الوحيدة التي تصف جرائم حروب الحصار والقصف العشوائي والتدمير المنهجي والتجويع والتهجير والتطهير الإثني بما يسري عليها في لغة القانون، حرفياً وبالتبيان الأدقّ. وعلى نحو ما، تنطبق في حالة ألبانيزي نظرية محمود درويش الشهيرة، كما قال بها في فيلم جان ـ لوك غودار «موسيقانا»، 2004: أنّ قسطاً من شهرة الفلسطينيين في العالم راجع إلى أنّ الإسرائيليين هم أعداؤهم، والانتباه إلى القضية الفلسطينية ينبع من الاهتمام بالمسألة اليهودية. وبين دلائل أخرى غير قليلة حول صيت ألبانيزي الذائع، لا يخضع موظف أممي واحد لما تخضع له اليوم من عقوبات أمريكية مشددة (بعضها شبيه بما تفرضه وزارة الخزانة على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين!)، والسبب لا يخفى بالطبع.
فهذه السيدة لا تكفّ عن تزويد خصومها الصهاينة بأسباب متعاقبة للذهاب بأنساق معاداتها إلى درجات قصوى من السعار، بعضه لا يتجنب الهستيريا المعلَنة الفاضحة، كما يفعل مندوب الاحتلال لدى الأمم المتحدة. هذا إذا وضع المرء جانباً المقت الشديد الذي باتت أكثر من 60 شركة كونية عملاقة لا تستبطنه بقدر ما تعلن عنه صراحة ضدّ ألبانيزي، بعد تقريرها الشهير الدامغ بصدد شراكتهم في «اقتصاد الاحتلال الاستيطاني ـ الاستعماري»، المتحوّل إلى شريك أيضاً في «اقتصاد الإبادة الجماعية». وهؤلاء، على سبيل الأمثلة فقط، لوكهيد الأمريكية، ليونرود الإيطالية، فانوك اليابانية (في ميادين الصناعات العسكرية)؛ وكاتربيلار الأمريكية، هونداي اليابانية، فولفو السويدية،HD الكورية الجنوبية،Airbnb وBooking.com (السيارات والنقل والإسكان والسياحة)؛ وشيفرون، النفط البريطانية، باركلي العالمية، أكسا الفرنسية، أليانتز الألمانية (طاقة ومصارف وتأمين)؛ وأخيراً وليس آخراً: أمازون، ميكروسوفت، بالانتير، ألفابيت، IBM (المعلوماتية والتواصل).
مناسبة هذه السطور هي كتابها الجديد «عندما ينام العالم: حكايات وأصوات وجراح فلسطين»، الذي صدر مؤخراً بالإيطالية أولاً، وقرأته هذه السطور في ترجمة إلى الفرنسية أنجزتها سيمونيت غريجيو، عن منشورات Mémoire d’Encrier في مونتريال، كندا. وفي فصوله، بل في سائر فقرات الكتاب، تحرص ألبانيزي على «تعكير» رقاد العالم إزاء ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي من فظائع، ليس في قطاع غزّة وحده، بل في فلسطين بأسرها. نهج التأليف، في المقابل، لا يسير على مألوف ما تلجأ إليه أدبيات توظيف الكوارث ضمن أجندات سياسية أو إنسانية أو إيديولوجية أو حتى أخلاقية؛ بل يعتمد، كثيراً في الواقع، على السرد والشهادة وتوثيق الحيثيات وتفعيل الحبكات، أي توظيف الحكي بالمعاني الأكثر عمقاً لسلطة الحكاية والمرويّ والقصصي.
راويات ألبانيزي ورواتها فلسطينيون وإسرائيليون وأوروبيون تسند إلى كلّ منهم صياغات سردية عميقة التوغل في بواطن المشهد الفلسطيني تحت الاحتلال، وبالتالي ذات تأثير جبار لجهة إنتاج وإعادة إنتاج الرسائل الوجدانية المختلفة خلف واقعة هنا أو أحدوثة هناك. هند رجب، ابنة السنوات الستّ والطفلة الشهيدة قتلاً متعمداً، تحكي معنى الطفولة الفلسطينية في زمن الإبادة. أبو حسن، الفلسطيني المقدسي الذي لا تعرف ألبانيزي تسمية أخرى له، مفتاح تعريفها على مدينة القدس منذ وصولها إليها في سنة 2010. والرجل/ «المؤسسة القائمة بذاتها»؛ جورج، الفلسطيني المقدسي بدوره، مهندس الكمبيوتر البارع وخريج «سليكون فالي» في الولايات المتحدة، وأحد مفاتيح التعرّف على المدينة القديمة بعيداً عن الكليشيهات السياحية.
شخوص ألبانيزي تتعدد أكثر فأكثر على امتداد فصول الكتاب العشرة، فيقرأ المرء عن ألون كونفينو أستاذ التاريخ الإيطالي ـ الإسرائيلي والأخصائي في مفهوم الإبادة وتنويعاتها، الذي عرّف ألبانيزي على وجهة مختلفة في النظر إلى القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي. وإيال، الإسرائيلي الذي غادر دولة الاحتلال ويصرّ على عدم العودة إلا بجواز سفر فلسطيني صادر عن دولة موحدة وديمقراطية لجميع سكانها، والمُدرك لإشكاليات هذه الفرضية وتعقيداتها، والمؤمن بها مع ذلك. وغابور، الإسرائيلي الذي تعرّف منذ طفولته على أنماط التمييز بحقّ اليهود، ويعي جيداً اليوم كيف انقلبت الضحية اليهودية إلى جلاد يمارس ما هو أبشع ضدّ الفلسطينيين. وإنغريد، الأوروبية التي اختارت فلسطين مسكناً، كي تفضح كلّ يوم كيف تنقلب دولة الاحتلال إلى منظومة أبارتيد أسوأ من مثالها الأسبق في جنوب أفريقيا…
وإذ تشير ألبانيزي إلى اتكائها على اثنين من رعاة ضميرها، أنتونيو غرامشي وإدوارد سعيد، فإنها في النطق بالحقّ والحقيقة صاحبة شأو خاص رفيع، يُعلي الصوت في وديان غير ذات زرع؛ حيث الفظائع تستوجب تعكير الرقاد، والإيقاظ.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد