السرد الرحلي نوعا أدبيا

السرد الرحلي نوعا أدبيا

15-12-2025 03:34 PM

تتجلى في كتب الرحلات العربية المؤلفة في العصور الوسطى حقيقة دورها في مدِّ القصة العربية بالمواضعات التي ساهمت في رسوخها جنسا أدبيا، ثم كان للترجمة دورها المهم في هجرة هذا الجنس بكل ما فيه من تقاليد السرد العربي إلى آداب الأمم المجاورة. ومهدت عوامل مختلفة في أن يكون للأدب الأوروبي دوره أيضا في تطوير قالب القصة، من خلال اعتماد الرحلة موضوعا رئيسيا فيها. وغدت أقلمة الرحلة مسألة مؤكدة في ما بلغه قالب القصة من رسوخ أواخر العصور الوسطى، ومفتتح عصر النهضة. وليس في كتابيّ ثرفانتس (دون كيخوته) ودانييل ديفو (روبنسون كروزو) سوى الدليل على حقيقة ما جرى من عمليات أقلمة سردية الرحلة، ومن خلال ذلك كله تطور قالب القصة.

وقد عرف القرنان السابع عشر والثامن عشر نماذج سردية مختلفة كان للرحلة موضوعا والقصة جنسا، أن ساهما في عمليات أقلمة متعددة تتوزع بين التحوير والتحويل والاستبدال. وكانت حصيلة ذلك كله أن بزغ قالب الرواية.

وبالطبع لا يأتي الاستدلال على ذلك من البحث في المتشابهات أو الاختلافات، وإنما هو كامن في النماذج. وكل نموذج هو امتداد لأصل ذي قاعدة أو جذر. فالأدب كائن حي لم يأتِ من عدم، ولا هو نشأ بالصدفة. ولأن لا قاعدة من دون تاريخ يدل على أصلها، تكون الرحلة ذات بعد تاريخي، أهمله البنيويون وما بعد البنيويين مع ما أهملوه من تاريخ الأدب، في حين عاد الثقافيون وما بعد الاستعماريين بالتقاليد السردية إلى عصر هوميروس والإنجيل التوراتي، كما فعل هارولد بلوم في كتابيه (التقليد الغربي) و(كيف نقرأ).

وما لا شك فيه أن التقاليد مسألة تالية لنشوء النماذج التي هي بدورها تالية لعملية تشكل الأصول التي بامتدادها في شكل قاعدة ما، تجاوزت حدود اللغة والعرق والجغرافيا والدين والثقافة. وينطبق الأمر على ما تفرَّع من تلك القاعدة من أشكال وأنواع وصيغ وأساليب اتسمت بقدرتها على الهجرة والانتقال ما بين الآداب. ومن تلك الأنواع السرد الرحلي الذي له في حياة العرب مكانة أثيرة، جعلت له مواضعات فنية متوارثة تدل عليها مدونات أدب الرحلات. وما من مسافة إبداعية فاصلة بين سرد الرحلة الفعلية وسرد الرحلة المتخيلة، نظرا لارتكانهما إلى ثنائية الواقعي والمتخيل كقاسم مشترك بينهما. ولو لم تكن الرحلة الفعلية جامعا أدبيا بين الواقعي والمتخيل لكانت مجرد مدونات علمية صرفة جافة وخالية من أي طابع فني.
واتخاذ الرحلة نوعا سرديا يأتي من حقيقة أن الارتحال ثيمة موضوعية، ومكون مكاني هو عنصر أساس في بناء أي حبكة فنية. وإذا كانت مواضعات السرد الرحلي قد دُشنت في الطور الشفاهي، فإن رسوخ تلك المواضعات حصل في الطور الكتابي. الأمر الذي أفضى إلى استقرار قالب القصة جنسا يضم في داخله أنواعا سردية مثل، المقامة والمنامة والرحلة والنادرة، وأشكالا أدبية أخرى مثل الأقصوصة والزجل هذا أولا، وثانيا أن نموذجية نصوص الرحلات العربية القديمة سمحت بأقلمتها بأساليب مختلفة.

وعلى الرغم مما قام به المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي من جهد كبير في دراسة المدونات الرحلية العربية في كتابه الموسوعي (تاريخ الأدب الجغرافي العربي)، فإنه أخذ على أدب الرحلات اتباعه تقاليد السلف الأدبية، وعدَّ ذلك عيبا بالقول: (غلب على الأدب العربي موقف معين من الإنتاج الأدبي للسلف، يتفق أحيانا مع الفكرة المعاصرة للسرقة الأدبية plagiarism.. ذلك أن هذه الظاهرة شملت جميع ميادين الأدب ونشأت على وجه التقريب منذ بداية التأليف عند العرب. وقد أكد الجغرافي المقدسي «القرن العاشر» ولو بشيء من المبالغة، وذلك في ملاحظاته النقدية عن السابقين له في مضمار الجغرافيا، إن كتاب الجيهاني يضم بين دفتيه كتاب ابن خرداذبه، وأن ابن الفقيه لا يختلف في شيء عن الجاحظ. وفي ما بعد أصبح تضمين مصنفات الغير، أو تضمين قطع منها في صلب المصنف، قاعدة عامة). كما عاب كراتشكوفسكي على أدب الرحلة نزوعه إلى الوصف الشامل، بدلا من العرض المفصل الدقيق. وأخذ على بعض المصنفين العرب أنهم – عن غير قصد أو سوء نية ـ لم يطبقوا المنهج النقدي على المصادر المكتوبة التي أفادوا منها، فكانوا ينقلون روايات المؤلفين المتقدمين من دون الإشارة إلى أنها ترجع إلى عصر سابق لعصرهم بكثير، وأنَّ هذا ما ساق عددا من البحّاثة إلى الخطأ.

هذه المآخذ التي سجلها كراتشوفسكي على أدب الرحلة، أو كما يسميه الأدب الجغرافي، تأتي من اعتماده في نقد هذا الأدب على منهج أحادي يفي بزاوية واحدة من زوايا البحث النقدي، ولا يكترث بزوايا أخر تتعلق بالأصول الأدبية، وتتبع التطورات الفنية في سرد الرحلات.

وسنقف عند كل مأخذ على حدة، فأما الموقف من السلف، فيأتي من حقيقة ما للمؤلف من مكانة مركزية في الثقافة العربية. وبسبب هذه المكانة، صارت السرقة الأدبية قضية من قضايا النقد العربي القديم. أما تضمين المصادر من دون الإشارة إلى أنها قديمة أو الوصف الشامل للأمكنة، فتأتي من رغبة المؤلف في أن يمارس دوره في اتباع التقاليد، حيث لكل تقليد تاريخه البعيد. ومن الواجب على الشاعر أو القاص أن يتمثل تلك التقاليد أولا. ومن بعد ذلك يؤقلم هذه التقاليد آخرا. وإذا كان المؤلف في المرحلة الأولى إتباعيا، فإنه في الأقلمة يؤكد مقدرته التأليفية في تمثل الأصول الأدبية والإفادة منها في تطوير التقاليد السردية. وما بين هاتين العمليتين أي التمثل والتطوير، شكَّل السير على تقاليد السلف وأقلمة إنتاجهم ظاهرة في التأليف الأدبي عند العرب. وليس في هذا السير مثلبة كما يذهب المستشرق كراتشوفسكي، بل السير مأثرة، لأن من خلاله تُحفظ التقاليد فتستمر من ثم دينامية انتقالها من جيل إلى جيل. وهذا هو الذي ساهم في رسوخ فن الرحلة نوعا سرديا عربيا. وهو ما لا ينكره كراتشوفسكي الذي رأى في الرحلة أهمية علمية قصوى وتنوعا كبيرا في فنونها وأنماطها، وأنَّ فيها كثيرا من المتعة الفنية والنماذج الأدبية الرائعة، مؤكدا بذلك مقدرة العرب الفائقة وبراعتهم في فن القصص، وهو القائل: (لقد أثار هذا الأدب اهتماما بالغا بسبب تنوعه وغنى مادته، فهو تارة علمي، وتارة شعبي، وهو طورا واقعي وأسطوري على السواء، تكمن فيه المتعة كما تكمن فيه الفائدة. لذا فهو يقدم لنا مادة دسمة متعددة الجوانب، لا يوجد لها مثيل في أدب أي شعب معاصر للعرب).

وتتنوع صور السير على التقاليد في أقلمة النصوص الرحلية كموضوعات وأبنية، فهناك من يؤقلم النصوص التي سبقته، وهناك من يؤقلم تقليدا معينا، ما يساهم في تطوير كتابة أدب الرحلات، سواء الواقعية أو المتخيلة، لأن التخييل فيهما مطلب أدبي، وما من رحلة تخلو من التخييل حتى إن كانت تُسرد في شكل يوميات، أو كانت علمية، فالتخييل يظل عنصرا أساسيا أيضا. ذلك أن النص الرحلي القديم أو الحديث، العلمي أو الأدبي هو نص سردي متخيل بواحد من نمطين: الأول أن يكون التخييل محتملا وواقعيا، والآخر أن يكون غير محتمل أو مستحيل الوقوع. والمفارقة هنا أن وظيفة هذين النمطين واحدة وهي» التعرف والتحول» وحدد أرسطو عملهما في كونهما يُولدان من تكوين الحكاية نفسها أو يصدران عن الوقائع السابقة صدورا ضروريا أو احتماليا.

كاتبة عراقية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد