غزوة ترامب الفنزويلية

غزوة ترامب الفنزويلية

06-12-2025 03:09 AM

بالطبع، فإنه لا عاقل ولا مجنون يصدق اتهامات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لدولة فنزويلا ولرئيسها نيكولاس مادورو، والادعاء على أنه يتزعم «كارتل مخدرات» وهمي، يطلق عليه ترامب، اسم «كارتل الشمس»، أو «كارتل دي لوس سوليس» باللغة الإسبانية السائدة في أغلب دول أمريكا اللاتينية.
والمعروف أن فنزويلا ليست محلا مختارا لعصابات المخدرات، وأن غالب التقارير حتى الأمريكية المعنية، تورد أسماء دول أخرى، تتهمها بتوريد المخدرات إلى أمريكا، أهمها عصابات «الكوكايين» و»الفنتانيل» في كولومبيا والمكسيك، وحتى من كندا، شمال الولايات المتحدة، لكن ترامب يحشر اسم فنزويلا ومادورو، لأسباب أخرى ظاهرة، أهمها أن فنزويلا، بلد عظيم الموارد الطبيعية والمعدنية، وصاحبة أكبر احتياطي بترول مثبت في الدنيا كلها، ولديها احتياطات هائلة من الذهب والمعادن الثمينة النادرة، وترامب يريد الاستيلاء على فنزويلا، لنهب مواردها الاقتصادية، وإزاحة مادورو بسبب ميوله الوطنية الاجتماعية اليسارية، والعلاقات التي ينسجها نظامه مع الصين وروسيا وحتى إيران، وقد تعرض البلد اللاتيني على بحر الكاريبي، لعقوبات متصلة من الإدارات الأمريكية المتتابعة قبل رئاسة ترامب الثانية، كادت تخنق اقتصاد فنزويلا تماما، وهبطت بتصدير بترول فنزويلا إلى أقل من الثلث، رغم امتلاكها لاحتياطي بترولي بلا نظير، تبلغ تقديراته أكثر من 300 مليار برميل، وكانت الشركات الأمريكية خاصة «شيفرون» تقوم بأعمال التنقيب والتطوير والاستخراج، قبل أن تتعرض فنزويلا لحصار وخنق أمريكي، كان سببا في تقادم بنيتها البترولية الأساسية، وتهالك خطوط الأنابيب، وكانت تصدر بترولها غالبا إلى الولايات المتحدة، قبل أن تهبط مستويات الإنتاج، وتكون الصين هي المشترى الأكبر لبترولها، وبعقود قصيرة الأجل .
وفي العقود الثلاثة الأخيرة، تصاعدت دراما العصف الأمريكي بالنظام الحاكم في فنزويلا، وبالذات بعد فوز الكولونيل هوغو شافيز بالرئاسة في انتخابات حرة أواخر عام 1998، وكان شافيز عظيم التأثر بزعماء ورموز حركات التحرير الوطني العالمية، وأعلن مرات عن اقتدائه بفكر وسيرة جمال عبد الناصر بالذات، وكان يعتبر نفسه «ناصريا» بامتياز، ومزج مثال عبد الناصر، مع ذكرى القائد اللاتيني التاريخي سيمون بوليفار، الذي يعرف في دراما أمريكا اللاتينية بصفة «المحرر»، وكان من مواليد كاراكاس عاصمة فنزويلا الحالية، وقاد ثورة طويلة المدى ضد استعمار الإمبراطورية الإسبانية، وحرر دول فنزويلا والإكوادور وبيرو وبوليفيا، وأسس وترأس دولة كولومبيا الكبرى، إلى أن توفي عام 1830 عن 47 سنة، وانفصلت بعده فنزويلا عن كولومبيا، ورغم أنه لم يحقق أهدافه بالكامل في تحرير وتوحيد دول أمريكا اللاتينية، إلا أنه ظل رمزا ملهما لحركات التحرير واتجاهات اليسار في التاريخ الحديث والمعاصر لأمريكا الجنوبية، وبالذات في دولها المطلة على بحر الكاريبي، ومنها فنزويلا، وهو ما يفسر إطلاق شافيز لاسم «الحركة الاشتراكية البوليفارية» على حزبه، الذي انتسب إليه مادورو، وكان سائق حافلة، وناشطا نقابيا بارزا، وفي سنة 2013، توفي شافيز بعد صراع طال لعامين مع داء السرطان، وكان مادورو قد عمل في طاقم شافيز المقرب، وشارك في مواجهة وهزيمة انقلابين دبرتهما واشنطن ضد شافيز، الذي اختاره لمنصب وزير الخارجية، ثم نائبا للرئيس، إلى أن خلف زعيمه شافيز في رئاسة فنزويلا ذات الأربعة والثلاثين مليون نسمة، وفي قيادة حركته «البوليفارية»، التي تواصل برنامجها المنحاز اجتماعيا للفقراء والطبقات العاملة، رغم تراجع وانكماش الدخل العام للبلد المعتمد أساسا على تصدير البترول، والتضاعف الفلكي لمعدلات التضخم إلى ما يفوق الألف بالمئة سنويا .
وكما تعرض حكم شافيز لانقلابات ضده دبرتها المخابرات المركزية الأمريكية، واستطاع التغلب عليها بفضل شعبيته الهائلة وروحه الثورية «الكاريزمية»، فقد تعرض خليفته مادورو مرات لخطر الانقلابات ذاتها، ومن المصادر الأمريكية والغربية ذاتها عموما، ودارت الانقلابات الجديدة، حول التشكيك في نتائج الانتخابات الرئاسية بالذات، التي فاز فيها مادورو بما فوق الخمسين في المئة من الأصوات رسميا، وتعددت فيها الأسماء المناوئة المتحدية لرئاسته، وأهمها خوان جوايدو، الذي كان رئيسا للبرلمان، وادعى فوزه بانتخابات الرئاسة عام 2018، وشكل ما سماه حكومة مؤقتة في يناير 2019، لكن حلفاء جوايدو وأحزاب المعارضة الثلاثة الكبرى، قرروا حل حكومته في ما بعد، وهرب جوايدو المؤيد أمريكيا وأوروبيا إلى المنفى.
وفي انتخابات الرئاسة الأخيرة وبعدها، برز اسم ماريا ماشادو، التي أعطوها جائزة «نوبل» للسلام لتلميع صورتها الباهتة، ويسعى ترامب لتنصيبها بعد إزاحة مادورو بالقوة المسلحة، وحشد لتحقيق هدفه أكثر من 15 ألف جندي أمريكي من القوات الخاصة في قاعدة بورتريكو، مع جيش عسكري بحري في الكاريبي، تقوده أكبر حاملة طائرات أمريكية «جيرالد فورد»، إضافة لخطط سرية للمخابرات الأمريكية، أعلنها «ترامب» بنفسه، وتستهدف اغتيال مادورو، بعد إخفاق ترامب في ترهيب الرئيس الفنزويلي، ودفعه لقبول النجاة بنفسه وعائلته، والهرب إلى دولة يتفق عليها، وهو ما رفضه مادورو، الذي يستعد لمواجهة أي غزو أمريكي بري، ويعلن مع أنصاره الاستعداد لمواجهة أي حكم عميل تفرضه أمريكا بحرب عصابات طويلة المدى، وقد لا تفضل واشنطن غزوا بريا تخشى عواقبه، وتفضل حملات القصف الجوي المكثفة، مع عمليات المخابرات التي جرى الكشف عن بعضها، على طريقة محاولة الاتفاق مع طيار مادورو الخاص حي الضمير، وإن كان أحدا لا يستبعد اختراقا أمريكيا لنظام مادورو من داخله، وتدبير انقلاب عسكري في كاراكاس، وفي حملة قد تمتد إلى الجوار الفنزويلي في كولومبيا، ومحاولة إقصاء زعيم كولومبيا اليساري جوستافو بيترو، الذي حذر ترامب علنا من إيقاظ «النمر اللاتيني»، ربما في إشارة مفهومة إلى ميراث المحرر سيمون بوليفار.
وقد لا يتعجب أحد أبدا من سلوك واشنطن، ولا من أفعال «ترامب» المتناقض، الذي يتظاهر كذبا بالدعوة إلى السلام وإيقاف الحروب، بينما يواصل استثارة الشهوات في إشعال الحروب، وكما حارب أسلافه في العراق لإسقاط صدام حسين، وحارب هو نفسه لإسقاط النظام الإيراني، فلا يستبعد أن يواصل سلاسل العدوان في أمريكا اللاتينية، التي تعتبرها واشنطن حديقتها الخلفية الخاصة منذ إعلان «مبدأ مونرو» عام 1823، نسبه إلى الرئيس الأمريكي وقتها جيمس مونرو، وكانت واشنطن وقتها تحارب القوى الاستعمارية الأوروبية، وتحرم عليها التوسع في أمريكا الجنوبية، وتفرض وصاية أمريكية حصرية على الأمريكتين شمالا وجنوبا، ثم تحول «مبدأ مونرو» مع الرؤساء الأمريكيين اللاحقين، وصار يفترض لواشنطن وضع «الشرطة الدولية»، التي اتسع نطاق عملها وهيمنتها، من نصف الكرة الغربي إلى الدنيا كلها، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ونهوض واشنطن بدور قيادة العالم الغربي الاستعماري إجمالا، وامتداد مفهوم «الشرطة الدولية» إلى الجنوب العالمي كله، وتوريط القوة الأمريكية في عشرات الحروب على الصعيد الدولي، من فيتنام إلى أفغانستان وإلى حرب أوكرانيا، وكلها حروب لم تفز فيها واشنطن بنهاية المطاف، وإن كانت الانقلابات الأمريكية لم تتوقف أبدا في أمريكا اللاتينية، وبعشرات الحالات من انقلاب غواتيمالا عام 1954، إلى انقلاب تشيلي عام 1973، وإلى عودة للهواية والغواية المدمرة نفسها مع رئاسة ترامب الأولى والثانية، وتكرار استهداف الحكومات اليسارية الديمقراطية، وبالذات في كولومبيا وفنزويلا، وربما يأتي الدور على البرازيل أكبر دول أمريكا اللاتينية، مع خصومة ترامب الثأرية الظاهرة للرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، ومن المعروف أن حكومات اليسار اللاتيني تجمع إلى العناد مع أمريكا، عداء محتدما مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، برز للعيان في التنديد الجدي بمجازر الإبادة الجماعية الأمريكية الإسرائيلية، في غزة والضفة ولبنان، إضافة لأدوار حكومات اليسار اللاتيني وحواضنها الشعبية في الانتفاضة العالمية الجماهيرية ضد الظلم والطغيان الأمريكي الإسرائيل، وفي التقارب الظاهر مع الصين وروسيا وغيرهما من دول حلف الشرق الجديد.
وقد لا نشهد دورا عسكريا مباشرا بارزا للصين أو لروسيا في مواجهة العدوان الأمريكي على فنزويلا، وضد رئيسها الوطني اليساري مادورو، وقد يكون السبب في اختلاف نطاقات الدور العسكري الصيني والروسي، لكن الانقلاب على مادورو حتى لو نجح، فقد لا يعني فوزا أمريكيا قابلا لاستقرار ولا لدوام، ولا حتى جلبا لعطف الداخل الأمريكي على ترامب، الذي يهرب من تراجع شعبيته الداخلية، إلى غزوات ومغامرات خارجية، لن تحقق بالضرورة أهدافها المكشوفة، خصوصا مع وعي شعوب أمريكا اللاتينية بالطبيعة «الطاعونية» للدور الأمريكي وانقلاباته المصنوعة، التي أفنت عشرات الملايين من أبنائها، وسرقت ثرواتها ومواردها الطبيعية الغنية، ولا تزال تفعل «عيني عينك» حتى إشعار آخر .

كاتب مصري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد