الفضاء الأزرق .. والصداقات الوهمية

الفضاء الأزرق  ..  والصداقات الوهمية

21-12-2025 02:34 PM

كشفتْ واقعةُ انقطاع صلتي بالفيس بوك عدة أيام، بعد تمكن المُخترِق الخبيث (هاكر) من تعطيل حسابي، عن أنَّ الصداقات عبر تلك الوسيلة وما شابهها من تويتر وإنستجرام، وتليجرام، صداقاتٌ وهمية، وأنَّ عبارات الود والتملق والمدح والثناء بين الأصدقاء خلالها ما هي إلا نوعٌ من الزيف، البعيد عن المحبة الحقيقية، التي تجعل البشر كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعتْ له سائرُ الأعضاء بالحمى والسهر، فلا تزيد العلاقة بين من تربطهم تلك الوسائل ـ خاصة إن لم تكن بينهم صلةٌ وثيقة ومعرفة مسبقة ـ على كونها مجرد بيوت من رمل سرعان ما تنهدم بمجرد أن تصل إليها مياه البحر في نوبة المدّ!
عدةُ أيام مضت على انقطاع صلتي بهذه الوسيلة، ولم أظفر إلا ببحثِ وتنقيبِ القليل ممن صادقت؛ للاطمئنان على أخباري، ومعرفة سبب انقطاعي، مع دعائهم الصادق بأن يكون المانعُ خيرا.
من تلك المحاولات الجادة، محاولةُ الأديبة الراقية عبلة المُنيف سليلة بيت العلم والأدب، التي كان ومازال وسيظل أدبُ عمها الروائي الكبير عبد الرحمن المُنيف بُغيةَ الباحثين عن الأدب الجاد الضارب بجذوره في بطون الحرفية والإبداع، والذي يُعدُّ أشهرَ رواة الجزيرة العربية، وأحدَ أعمدة السرد العربي البارزة في العصر الحديث، فلا ننسى من أعماله الروائية المتميزة، مُدن الملح، وأسماء مُستعارة، وأرض السواد، وعالم بلا خرائط، وربما سنحت لنا الفرصةُ لاحقا لنغوص في عالم ذلك الأديب الفذّ.
ولا أنكر أنه ربما كانت هناك محاولاتٌ أخرى للاطمئنان عليَّ من أصدقاء مضتْ على صداقتي بهم سنوات، وهذا أمرٌ مقطوع به، ولكني حتى الآن لم أعرف عنها شيئا، وحتى يتضح الأمرُ دعوني أؤكد أنَّ هذه التجربة، جعلتني لا أعوِّلُ كثيرا على صداقات الفيس بوك وغيرها، ولا أسعدُ بكلمات المدح، أو أحزنُ لكلمات الذَّم والعتاب، من أصدقاء ضُرب بيني وبينهم بسور من الحَجب والبُعد والضبابية، التي تُخفي معالم وطباع وأخلاقيات كلِّ طرف.
فبعضٌ من صداقات الفيس، تقوم على الغشّ والتضليل والخداع، وتجميل الصورة، التي تكون أبعد ما تكون عن الحقيقة، ولا أقصد الصداقات التي تنشأ بين أشخاصٍ، يتلاقون في الفكر والثقافة والعلم، ولكني أقصدُ الصداقات التي تقوم بدافع الرغبة والهوى، فتنشد أغراضا دنيئة بين جنسين مختلفين، يزعمُ فيها كلُّ طرف أنه مَلكٌ مُطهَرٌ، وهو في حقيقته شيطانٌ رجيم.
نماذجُ هذه الصداقات محل النقد أكثرُ من أن تُعدّ، وأصعبُ من أن تُحصى، منها على سبيل المثال لا الحصر حرصُ بعضٍ من النساء ممن لَحب منهن الجنبان، واحدودب الظهرُ، على صداقة شباب أصغر من أحفادهن، وتبادل كلمات الحب والهيام؛ اعتمادا على عدم رؤية كلّ طرف للآخر، والتي إن حدثت، كُشف المستور، وصارت فضيحة الكذَّاب (علي عينك يا تاجر).
ومنها تصابي من هو طاعنٌ في السن، وحرصُه على صداقة فتيات في شرخ الشباب، دون إخطارهن بسنه الحقيقية، التي لو عرفنها، تيقنَّ أنَّ الموت نسيه، وأنَّه خارج الخدمة، ومنها صداقاتُ أجناس مُختلفة، يتسلل من خلالها كلُّ طرف لعالم الآخر، فيعرف عنه كلَّ صغيرة وكبيرة، وربما استغل أحد الطرفين تلك المعلومات في ابتزاز الآخر، وإجباره علي فعل أفعال يحرِّمها الله، ويرفضها الدين!
ومنها صداقاتٌ تقوم مائدتها علي الغِيبة والنميمة ونشر الفتن وترويج الشائعات، التي تضعُ بسببها كلُّ ذات حَمل حملها، وغير ذلك الكثير مما لا يتسع له المقام.
صداقة الفيس ـ يا سادة ـ شيءٌ جميل بشرط أن تُوظَّفَ توظيفها الصحيح، فترتقي بالفكر، وتُسهم في حلِّ المشكلات، وتُناقِش قضايا مصيرية، ولابد لذلك من توافر المصداقية، التي تسمو بهذه الصداقة، وتحلِّق بها في أفاق رحبة، وحتى يتحقق ذلك ستبقى صداقاتُ الفيس صداقاتٍ وهمية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد