قصص الشرق المعطوب - بروين حبيب

mainThumb

03-06-2019 03:37 PM

 دخلت قصة علاء الدين والمصباح السحري مجموعة ألف ليلة وليلة متأخرة، أضافها مستشرق سمعها من أحد الرواة ذوي الأصول الشامية من حلب، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن القصة مثل حبيبات الطَّلْع، إن لم تثمر هنا أثمرت هناك، حسب ما تذروها الرياح، ولولا تلك الرحلة العجيبة للأسطورة الغرائبية من بلاد الشرق إلى بلاد الغرب، لما أصبحت من أهم النصوص التي استثمرت فيها قطاعات السمعي البصري، برؤية الغرب نفسه، الذي يرى «تخاريفنا» كما نسميها نحن، مادة جيدة لصناعة أعمال فنية ناجحة جماهيريا.

في معرض الكتاب الأخير سألت ناشرا عن أهم القصص التي تُباع للأطفال، فحمل قصة «علاء الدين والمصباح السحري» نسخة بالعربية وأخرى بالإنكليزية، وأشار إلى العربية وقال: «هذه نبيع منها القليل»، ثم أشار إلى النسخة الأجنبية وقال: «وهذه تُباع جيدا».. كان متأسفا أن القارئ باللغة العربية يتراجع، لأن طفل اليوم هو رجل الغد.
الحوار الذي دار بيننا استحق التدوين في لحظتها، لكنني انشغلت ونسيته، وقد عاد إلى ذاكرتي بعد أن رأيت دعاية فيلم «علاء الدين» لغاي ريتشي، بطولة ويل سميث، مينا مسعود (الممثل الكندي ذي الأصول القبطية المصرية) ونعومي سكوت (الممثلة البريطانية) وكلاهما مواليد مطلع التسعينيات. لأتذكر أيضا كلام الناشر حين لفت نظري إلى أن القصص الراكدة تأسن في أعماق الذاكرة قبل أن تموت، أو على الأقل تنام في تلك الأعماق إلى أن يأتي من يخرجها، ويعيد تلميعها، وقد نبهني في ما نبهني إلى أن أولاده لا يلفظون اسمي علاء الدين، وجعفر كما وردا في القصة، بل يلفظانهما على الطريقة الإنكليزية : آلادن، وجفار. قال: بعد خمسين سنة ستعتقد الأجيال القادمة أن قصة علاء الدين والمصباح السحري اختراع أمريكي! بتشاؤم كبير لم أتقبله، فإن عاشت القصة شفهيا لمئات السنين، حتى وجدت من يدونها، فلم لا تعيش اليوم محافظة على هويتها الذائبة في الجغرافيا الشرقية كلها؟ لقد اتسعت رقعة انتشارها لتصبح قصة عالمية، لكن سحرها لا يزال نابعا من أجواء الشرق، حتى إن لم نتأكد إن كانت قصة بغدادية أو صينية أو تركستانية.
 
تصنع الحكاية رونقها الخاص من محتوياها، أما الإضافات التي أضفتها عليها القطاعات الفنية المختلفة لتقدمها لجمهور يوافق المعطى الزمني الحاضر، فهي بالضبط ماء الحياة الذي يسقيها لتزهر في كل موسم جديد لها.
تأثير الفيلم على سوق الكتاب لم يتوقف على إنعاش الإقبال على قصة «علاء الدين والمصباح السحري»، بل تجاوزه إلى الإقبال على كتاب «ألف ليلة وليلة»، وقصصها التي نشرت منفردة. ومع أنني قرأت «ألف ليلة وليلة» في أجزاء ثلاثة (إصدار المكتبة الثقافية في بيروت طبعة 1981) وكتبت في موضوعها أكثر من مرة، إلا أنني إلى اليوم لا أتذكر عدد قصصها، فالقصص منقحة ومختصرة، وحجم كل قصة موزع على عدة ليال أكثر اختصارا، حتى أنني تخيلت شهريار يعود إلى مخدعه في آخر الليل منهكا بأعباء دولته، وربما بالإسراف في الشرب مع الحاشية المقربة له، فما إن تفتح شهرزاد فمها لتسرد له القصة حتى يغفو، فليس الفجر هو الذي يدركها بل نوم شهريار هو الذي ينقذها في تلك اللحظات، ومن يدري إن كانت تلك المحدثة المتقنة لفن السرد لا تتقن فنونا أخرى مثل وضع منوم لسيدها في الشراب، أو عشبة تبعث رائحة ترخي أعصابه وترسله في نوم عميق.
أسئلتي التي أطرحها دائما عند قراءتي للأساطير والقصص القديمة والروايات، هي بالضبط ما يجعلني أفهم كيف يتجدد النص في المكتبات الغربية، ويشيخ في مكتباتنا حتى يموت، فللقراءة أبواب، إن لم يفتحها القارئ ويتوغل عبرها لعالم النص، كما لو أنه حقيقة فإنها تتحوّل إلى فعل قاتل، يقتل النص ومن بعده عقل القارئ، الذي تنطبق عليه الحكمة القرآنية «كمَثل الحمار يحمل أسفارا». إن الموروث الشفهي يتعرض للتحويرات والتأويلات، للإضافات والحذف، إضافة إلى ذلك فكل طبعة مروية تحمل رؤية قائلها، ولغته وموروثه الثقافي، وهذا حدث أيضا للطبعات المكتوبة، التي تتوالد من بعضها بعضا – وإن بنسبة أقل – لأسباب عديدة منها تفادي ما يثير الرقيب، ومنها ما صُحِّح حسب دراسات اعتمدت الرجوع للنسخ الأقدم، لكن في الحالات كلها، فإن المخطوطات الأولى مفقودة، وإن أدُّعِيَ أن ما تحويه بعض المكتبات الغربية، وهذه كلها أسباب تزيد من الإقبال على نص معين مثل نصوص ألف ليلة، لكن السؤال الذي يجب طرحه، هو أي الوسائل أكثر نجاعة لجعل النص يعاود انبعاثه وتأكيد حضوره؟ ولعلّ أقرب جواب للمنطق يكمن في الصناعة السينمائية، كما أرجح أيضا أن للمستشرقين دورا مهما في إبراز بعض الأعمال، وتغافلهم عن بعضها، فقصة علاء الدين مثلا وحكاية انتقالها من بلاد الشام إلى الصرح الباريسي في حدّ ذاتها تزيد من قيمتها، وكأنّها كنز نقل من بلاد الأساطير، إلى بلد يؤسس لنهضته، وبدأ يهتم بالأفكار التنويرية المقبلة إليه من كل صوب.
ثمة أيضا سر آخر في نجاح الأسطورة التراثية في لغات أجنبية، فهي تقدم في عدة نسخ، نسخ للكبار، وأخرى للأشبال، وكثير منها للأطفال، وهذه الأخيرة تكون مرفقة برسومات جميلة وألوان جذابة، في ما بعضها أرفق بموسيقى وأصوات جميلة تقرأها، أما ما يسمى بالألعاب الإلكترونية فيشبه الثورة الحقيقية في استثمار الأدب، وهو عامل آخر من العوامل القوية التي تحرض على قراءة الكتب الحاملة لأبطال تلك الألعاب. يبدو الأمر كأنه نظام متناسق، متكامل، تستفيد فيه كل العناصر من بعضها بعضا، وكلما برز عنصر برزت معه بشكل عفوي العناصر الأخرى. لنا أن نتخيل إذن ما مقدار مبيعات كتاب «علاء الدين والمصباح السحري» في أمريكا منذ إطلاق الفيلم؟ كون هذا الأمر حدث مع قصص كثيرة، اقتلعت من خمول حقيقي أصاب نسبة مبيعاتها، لسبب بسيط، وهو أن صناع السينما هناك يقرأون، وقد دخلوا ورشاتها من خلال جامعات محترمة، لم تمنحهم شهادات للتخرج إلاّ بعد تحصينهم بمتاع علمي وأدبي وتقني لاقتحامه بثقة. ولا أدري لماذا لا نرى هذا الأمر إلا قليلا في بيئتنا، رغم انتشار معاهد للعلوم الإنسانية تشمل الغوص في عوالم الأدب والمسرح وصناعة الأفلام، وعلوم أخرى، إذ بقيت العلاقة فاترة بين صناع الفيلم والأدباء، وإن وجدت فهي في الغالب تقتصر على الروابط الشخصية، فيما تخلو من أي تعاون يذكر، إلا ما ندر ذكره، وهذا موضوع آخر قد أطرحه على قرائي الكرام لمناقشته وإثرائه في المستقبل.
ما أريد أن أخلص إليه، هو أننا نمتلك الوسائل جميعها لتشجيع القراءة، وإحياء موروثنا الثقافي، ولكننا نمتلكها بدون أن نمتلك تلك التقاليد العريقة التي ولدتها تجربة مئات السنين في الغرب، نحن مجتمعات مبتورة التاريخ، تعرج دائما بساق معطوبة، فعلى مدى مئات السنين يظل الميراث ميراثنا، ولكنه يفنى في ديارنا وينبعث في الديار الغريبة في أبهى حلله.
 
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد