"هيئة كبار العلماء" جهة استشارية لا تنفيذية

mainThumb

15-09-2008 12:00 AM

معروفٌ أن "هيئة كبار العلماء" في المملكة العربية السعودية هيئة إسلامية سنيّة، تضم عدداً محدداً من الفقهاء، مخولة بإصدار الفتاوى وإبداء الآراء المتعلقة بالقضايا الفقهية. وقد أنشئت بمرسوم ملكي عام 1391هـ، ويتم اختيار أعضائها من السعوديين بأمر ملكي، كما يجوز عند الاقتضاء وبأمر ملكي إلحاق أعضاء بها من غير السعوديين ممن تتوفر فيهم صفات العلماء السلفيين. وهذه الهيئة لم تكن جهة تنفيذية/سياسية، بل جهة استشارية/دينية لملك البلاد الذي يتولى رئاسة الحكومة في مجلس الوزراء.
فالفقهاء يفترض أن يحصروا دورهم في تقديم المشورة، ولا يحاولوا التصريح أو التلميح بفرض رؤاهم فرضاً مهما كانت قيمتها، لكن الاختلاف الذي حصل بين فقهاء هيئة كبار العلماء حول توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله للمسعى، يوضح خطأ فرض الرأي بما يشبه السيطرة الأيديولوجية. فمثلاً الشيخ صالح الفوزان، بعد عام ونصف من بدء العمل بمشروع التوسعة، ما زال يحذر من هذه التوسعة ويردد بأنها "فتنة"! مؤكداً أن قضايا المملكة يختص النظر فيها بعلمائها المعتبرين، متسائلاً: لماذا يستنجد بأناس من خارج المملكة؟ وقد ردّ?Z عليه أحد تلاميذه وهو الشيخ عبدالمحسن العبيكان بردٍّ أعتقد أنه وفق فيه. أما الشيخ صالح اللحيدان فيقول:"إنني لم أرض?Z بهذه التوسعة وليسع ولي الأمر ما وسع قبله من الولاة"، مؤكداً أن من سعى في هذا المسعى الجديد فإنه "يكون في حكم من ترك فرضاً من العمرة يجبره بدم"!

علماً أن هذا المسعى ليس جديداً بل يقع داخل نطاق جبلي الصفا والمروة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن معظم فقهاء العالم الإسلامي-سنّة وشيعة- أجمعوا على أن هذه التوسعة تستند إلى فقه "التيسير والرحمة" إذ لم تخرج عن الحدود الشرعية للمسعى. ومنهم، على سبيبل المثال، آية الله العظمى علي خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية الذي أكد جواز توسعة المسعى فقال- في تصريح صحفي لجريدة "الشرق الأوسط" هو الأول من نوعه: "للضرورة ولعدم التعارض مع شيء شرعي فإننا نفتي بجواز السعي في القسم المستحدث من المسعى بشكل عرضي وأفقي". ومنهم أيضاً، المرجع الشيعي في لبنان محمد حسين فضل الله، والشيخ جواد الخالصي المرجع الشيعي العراقي، وناصر مكارم الشيرازي نائب المراجع الدينية في إيران، ومحمد موسوي مستشار الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. ومن الفقهاء السنّة: الشيخ يوسف القرضاوي، والمفكر الإسلامي التونسي راشد الغنوشي، ورئيس الوقف السني العراقي الدكتور عبد الموجود الصميدعي، وقاضي قضاة فلسطين الشيخ تيسير التميمي، والدكتور عبدالرحمن شيبان وزير الشئون الدينية الجزائري سابقاً وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي بمنظمة المؤتمر الإسلامي، والشيخ عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى بالأزهر. وأيضاً المرشد العام للإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف الذي قال إنه "سبق أن عارض بعض علماء المملكة الملك خالد بن عبد العزيز - رحمه الله - في مسألة التوسعة في منى، وثبتت صحة وجهة نظره".

ومن "هيئة كبار العلماء" لم يؤيد هذه التوسعة سوى اثنين، الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان والشيخ عبدالله المطلق، بينما طلب الشيخ أحمد سير مباركي مهلة للبحث. وبعد دراسة الأمر اقتنع الملك عبدالله برأي المجيزين وأمر ببدء المشروع، وقد رأينا اليوم اقتناعاً كبيراً بهذه التوسعة الإستراتيجية- من خلال تراجع اثنين من أعضاء الهيئة وهما الشيخ عبدالله بن منيع والشيخ صالح بن حميد. بينما سبق أن أيدها فقهاء سعوديون، ومنهم عضوا هيئة كبار العلماء سابقاً الشيخ عبدالله الركبان والشيخ عبدالله بن جبرين.

إنّ المعضلة الكبيرة ليست في الاختلاف الفقهي على أمر ما، سواء بين أعضاء الهيئة أو أي من فقهاء المسلمين، إنما في خطأ البعض بخلط الفقه بالسياسة، من خلال آراء تتجاوز الاختلاف في الرأي إلى محاولة فرضه. وخاصة في قضية إسلامية جوهرية، كقضية توسعة الأماكن المقدسة التي تصرف الحكومة السعودية عليها المليارات من الريالات، لا لشيء سوى التيسير على الحجاج والمعتمرين. فالأماكن المقدسة ليست خاصة بالسعوديين فقط، وإنْ كانت مهمة الإشراف عليها هي في النطاق الجغرافي والسياسي للمملكة كدولة.

غير أن ما يحدث الآن من تحذير وتشكيك للمسلمين في مناسكهم بعد هذه التوسعة، لا يخرج عن الاعتقاد بصواب الرأي والإصرار عليه، لكنه قد يتحول إلى أكثر من ذلك ما لم يراجع بعض فقهائنا أنفسهم في هذه القضية، فكون الشخص عضواً في هيئة دينية لا يعني كونه يملك الحق والحقيقة، ولا يعني أيضاً أنه مخول للنظر في أمور الدولة دون الرجوع للحاكم والحكومة، فمعظم تاريخ الفقهاء يشير إلى أنهم مستشارون دينيون لا سياسيون، وليس لهم من أمر السياسة شيء ما لم يطلب منهم ذلك. وقضية التوسعة الجديدة للمسعى هي قضية دينية، ولكن يمكن لنا في أي لحظة أن نشتمّ منها رائحة السياسة إذا خرجت عن نطاقها الديني. كما يمكن لنا أيضاً أن نلاحظ تأثير "الماضوية" في ثقافتنا، وأقصد بذلك قضية رفض الأمور الجديدة التي عانينا منها كثيراً في هذه البلاد من عهد الملك المؤسس رحمه الله. فـ"إخوان من طاع الله" عندما رفضوا قطيعاً إدخال بعض منجزات الحضارة الغربية، التي كانت ضرورية حينها، كانوا ينطلقون من نقطة رفض "الجديد" متذرّعين برفض الدين للكفار ومنتجاتهم، لكنهم أيضاً كانوا قد خلطوا تطرفهم الديني بالسياسة من خلال محاولاتهم فرض رؤاهم على الملك عبدالعزيز الذي لم يجد بداً حربهم في معركة "السبلة" منهياً بذلك أي أطماع سياسية لزعمائهم.

والنظرة لكل جديد بعين "الماضوية" هي ما جعل بعض فقهائنا اليوم غير مقتنعين ولا متقبّلين للاستعانة بخبراء "علم الأرض" في تحديد عرض جبلي الصفا والمروة في التوسعة الجديدة، حتى أن بعضهم يعتبر ما "كان" هو الذي يجب أن "يكون" ويبقى، معتبرين أن أعمال التوسعة التي تمت في عهد الملك سعود هي نهاية جبلي المسعى ذاته! والقضية برمتها لها تأثير ديني-سياسي على مجتمعنا وبلادنا، لا سيما أن هناك من يرى أن أتباع المذهب الحنبلي، الذي هو المذهب الرسمي للبلاد، ليسوا سوى "وهابيين متشددين" في نظر من يفسّر هذا الاختلاف بأنه إصرار على صحة وجهة نظر لا يرقى إليها الشك.  /  العربية نت /



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد