لا .. الأمن ليس أهم من الديمقراطية!

mainThumb

14-11-2009 12:00 AM

خالد سليمان

البعض، سواء عن حسن نية أو سوء نية، يتجشمون عناء المحاماة عن معادلة خاطئة من الأساس قوامها: الأمن أهم من الديمقراطية! غير مدركين، عن عمد ربما، أنهم يعملون بذلك على المقايضة بين الطرفين، في صفقة مشبوهة لصالح الأمن، الذي يراد له أن يتصدر المشهد، وأن يغدو الشغل الشاغل ومحور الاهتمام ونقطة الارتكاز، بينما تُنبذ الديمقراطية على أرض الواقع في المقابل، وتُعامل كما لو كانت من سفاسف الأمور الهامشية، أو الكمالية على أحسن تقدير، التي لا سبيل إلى الحديث عنها على محمل الجد، أو حتى الالتفات إليها، في زحمة الانشغال الكلي بعظائم الشؤون المصيرية المتعلقة بحماية الأمن وتعزيز أركانه!

تلك المعادلة المختلة المغرضة تتجاهل حقيقة مهمة وثابتة مفادها أن الأمن الداخلي لا يتهدد في كثير من الحالات إلا لغياب الديمقراطية، وأن ذلك الغياب هو الذي يفضي إلى تقوض الأمن.

والتجارب اللبنانية والعراقية والفلسطينية التي يتم توظيفها على نحو مغالط وملتو لإثبات العكس تؤكد ذلك؛ إذ أزعم أن الصراعات الأهلية في لبنان والعراق وفلسطين واليمن والسودان والصومال والجزائر ...الخ، ما كان لها أن تندلع من الأصل في ظل أنظمة ديمقراطية صحيحة وناضجة.

يمموا أنظاركم معي صوب ديمقراطيات العالم الراسخة كلها، وأراهن أننا سنجد صعوبة فعلية في إثبات تورط أي منها وهي تتفيأ ظلال الديمقراطية في نزاعات داخلية دامية واسعة النطاق يمكن القلق جدياً بشأنها، على الأقل مقارنة بما حدث ويحدث في البلدان المسكينة المحرومة من التنعم بضوابط الديمقراطية وصمامات أمانها.

لا يلغي حديثنا بكل تأكيد أو يهدر الأهمية القصوى التي لا يمكن التهاون فيها لمسألة الحفاظ على الأمن وحراسته من كل خطر، فضمان أمن الناس أمر مقدس، لكن الارتماء بكل ثقلنا في الجهة الأمنية من القارب والنأي عن جهة الديمقراطية منه قد يودي في نهاية المطاف إلى غرق القارب كله، وهذا ما حدث بالضبط للأنظمة الشمولية البائسة في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، التي وضعت كل بيضاتها في سلة الأمن، فحافظت عليه بالحديد والنار وسطوة البسطار، غير مدركة أن ذلك سيكون مقتلها، وأنه سيشكل الثغرة الفاضحة التي ستنفذ منها جحافل القوى الديمقراطية لتكتسح المكان!

الدعوة للانحياز المتزمت للأمن، لا تكون فيما يبدو إلا على حساب الديمقراطية، لتمثل مجرد كلام حق يراد به باطل؛ إذ إن تخويف الناس من "بعبع" انفلات الأمن لا يكون في كثير من الحالات من أجل سواد عيني الأمن وصيانته في المقام الأول، بل يأتي بقصد كتم أنفاس التطلعات الديمقراطية وقصقصة أجنحتها، وهذا بالطبع لا يخدم إلا بعض الفئات المتسلطة والانتهازية المتنفعة من استمرار ذلك الوضع المعتل على ما هو عليه، عبر إرهاب الأصوات التي تتجرأ على المطالبة بفتح ملفات الديمقراطية والإصلاح وقمعها؛ بتهمة أنها تتآمر من أجل تهديد الأمن ونثر بذور الفرقة والشقاق في أوصال الدولة والمجتمع.

من الواضح أن المرء لا يحتاج إلى درجة متقدمة من الذكاء أو القدرة على الملاحظة حتى يدرك، وبجلاء، أن اهتماماتنا في ظل الإثارة المفتعلة والتضخيم المبالغ به للبعد الأمني في بعض المشكلات هنا وهناك، تنقاد راغمة وتنصب على النقاش في المسألة الأمنية بصورة شبه حصرية، وكأننا بلعنا الطعم وانطلت علينا الحيلة، فلم نعد نجد الوقت أو العزيمة أو حتى المبرر لمجرد الكتابة عن شؤون الديمقراطية وشجونها، وحقيقة غيابها الموجع، وهذا بالضبط فيما يبدو هو المطلوب!

والصادم في الأمر أن تلك المشكلات "الأمنية" التي نستنزف جميعاً جهودنا ووقتنا وأعصابنا في التعاطي معها، تشخيصاً وتحليلاً، ومكافحةً وتذليلاً، لا تنتهي ولا تريد أن تنتهي، بل تبدو ميالة إلى التكاثر والتضخم؛ ما يوحي بأن الإشكالية الحقيقية والحل الحقيقي قد يكمنان في موضوعة أخرى يتم التعتيم الكلي عليها، أزعم أنها ليست إلا موضوعة غياب الديمقراطية الجدية، بل تغييبها!

المعادلة المائلة المجحفة لدينا بحاجة ماسة وملحة إلى إعادة ضبط وتوزين؛ بحيث تنطوي على اهتمام عادل ومتكافئ بالشقين الرئيسين منها: الديمقراطية والأمن، اللذين لا يمكن ضمان بقاء أحدهما طويلاً في ظل الاستهتار بحياة الآخر، مع أنني أميل شخصياً إلى القول بوجوب إعطاء المغذيات والمقويات بنسبة أكبر للأول منهما، فالديمقراطية المعافاة التي تضج بالحياة لطالما كانت الجسر الذي يضمن عبور الناس إلى شطوط الأمن، دون أن يصدق دائماً العكس!

وباستحضار الكلمات القدسية في صدقها للراحل الكبير عبد الرحمن منيف ننهي هذه المقالة فنهتف: الديمقراطية أولاً ... الديمقراطية دائماً!

sulimankhy@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد