التزويغ والجرّ إلى صلاة الجمعة

mainThumb

01-12-2008 12:00 AM

فرض على رجال أمتنا الإسلامية تأدية فريضة من أروع الفرائض وأكرمها وأشرفها، يلتقي فيها أهل الحيّ والجيران والأحبّة كلّ أسبوع في بيوت الرحمن؛ ليزيلوا عنهم عناء ستة أيام ولياليها، يتركون أعباءهم وأعمالهم وتجارتهم ومناسباتهم وأهاليهم، يهرولون إلى المساجد رجالاً وركباناً، أفراداً وزرافات، يمارسون الطقوس المعهودة : الاستحمام، وارتداء الملابس الأنيقة، والتعطر والتجمّل؛ اتباعاً لسنّة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

ولعلّ من أكثر الظواهر الملحوظة على الساحة الدينية (ظاهرة التزويغ أو الجرّ) إلى صلاة الجمعة، فكثير ممن يطنّشون هذه الفريضة تقصيراً من أنفسهم أو لحاجة في نفس يعقوب، وكثير من الذين يؤدّونها يذهبون والخطيب قد شرع في إقامة الصلاة، أو بدأ بالركعة الأولى أو الثانية، ومنهم من يأتي والإمام يقرأ التحيّات، مع أن خطبة الجمعة جزء من الصلاة، لذا كانت صلاة الجمعة ركعتين لا أربع.

قد لا نلوم بعض الشباب على هذا التقاعص، فخطب الجمعة باتت مملّة، غير مشوّقة، متكرّرة، لا تتناول الموضوعات الساخنة التي تجذب المصلّين، وإذا تناولتها فتكون معظمها بعيدة عن مسرح الواقع، فنحن بحاجة ماسّة إلى من يذكّرنا بأحاديث قائدنا صلوات الله وسلامه عليه، وسنّته، ومواقفه، ومعاركه، وغزواته، وأخلاقه، وصفاته، وأصحابه الكرام، وزوجاته، وبكلّ همساته ولمساته،... لكن ما فائدة التذكرة بدون ربطه بواقعنا وإرشادنا للكيفية المستفادة من كلّ ما ذكر، فهم الرعيل الأمثل، والقدوة العليا، ولم يتوقّف الأمر عليهم فحسب، ففي القرآن قصص الأمم البائدة والأنبياء والمرسلين ومواقف ومواعظ وأحكام وإرشادات وأخلاقيات وإتكيتيات و... و... كلّها تتمحور حول الإنسان، فالربّ أعلم بعبده؛ لذا ما ترك له شاردة ولا واردة إلا قدّمها وبيّنها ووضّحها، فالإنسانية هي الإنسانية، تركض وراء الثوابت والمتغيّرات على مرّ الأيام وكرّ الليالي، واختلاف الأجناس والألوان والأمكنة، لكن لكلّ زمان متغيراته وثوابته وخصوصياته واهتماماته ومتطلباته وموضوعاته وبيئته من مأكل وملبس ومأمن وستر وخوف وتفكير وتدبير وعبادة وانتماء... ، فابن آدم دفن أخاه، ومازلنا على السُنّة ذاتها، وإن اختلفت طريقة التخلّص من الجثّة وفق المعتقدات والديانات، وابن آدم كواه الجوع والخوف والبرد، فأبدع ولوّن في الإبداع، أليست (الحاجة أمّ الاختراع)؟ وربما نسينا أن هذه الخطبة أسبوعيّة، أيّ أنّ التحدث في موضوعاتها يجب أن يكون مستجدّاً، مواكباً أهمّ الأحداث على مدار أسبوع، تحاور الصغير والكبير، والمرأة والرجل، والأب والأمّ، والمتزوّج والأيّم، والمنجب والعقيم، والفتى والفتاة، والغنيّ والفقير، والميسر والمعسر، والمتعلّم والجاهل، والرئيس والمرؤوس، والحاكم والمحكوم، تعالج هموم الناس، وتقف على مشكلاتهم، وتتناول القضايا السياسيّة والاقتصاديّة والنفسيّة والاجتماعيّة والدينيّة والتكنولوجيّة... ولا تقف على كيفية الوضوء والصلاة، أو مقدار صدقة الفطر، أوعلى من تجوز الزكاة، أو مواكبة الحديث عن المواسم الدينية: رمضان، ليلة القدر، العيدين، الهجرة النبويّة، الإسراء والمعراج... فحسب، فنحن بحاجة إلى خطباء مفكّرين مجدّدين في زمننا هذا زمن العولمة والانفتاح بكلّ أشكاله ووسائله، نرتشف من خلالهم الدروس والعبر المستجدّة.

ألم يقولوا أن لكلّ زمان دولة ورجال؟! خطيب الأمس هو ذاته خطيب اليوم، بشكله وهندامه ومنظره وتعبيراته وموضوعاته، أنموذج منسوخ وزّع في كلّ مسجد وفي كلّ بلد، وكأنّه خطيب في ساحات الوغى لجيش عرمرم، يصدح بصوته، يرفعه ويعلو به حتى تنتفخ عروق رقبته، وربما يجرّب مدى تحمّل أوتار حباله الصوتية، ثم تراه يمارس فنّ التأشيرات اليدويّة والإشارات الفمويّة، وتشاركه حركات العيون والحواجب، ولا ضير في ذلك، مع أن موضوع الخطبة لا يحتاج إلى كلّ هذا العناء وبذل الجهد، بل يفتقد إلى الرهف واللين وخفض الصوت وملامسة شغاف القلب، وصميم الفؤاد والفكر؛ فالخطبة روحانية، تخاطب الوجدان والقلب والروح والعقل والضمير.

لقد بات من المعروف أن المعلّم في حصته الصفيّة أو المحاضر في محاضرته يتحكّم بنبرة صوته لمناسبة الموقف التعليميّ، ويراعي تعبيراته في أنماط الأساليب الخبرية والأساليب الإنشائية، فالحكاية أو السرد يختلف عن السؤال أو التعجب، والخطبة من أكثر المواقف تعليماً، تحوي على الحكاية والقصّة والتشويق والسرد والتساؤل والتعجب والدعاء والتذلّل والخشوع والرجاء والترغيب والترهيب، فإذا قيل أن للخطبة خصائصها التي تمتاز بها عن فنون النثر الأخرى فخصوصيّتها تنبع من ذاتها كالبدء بالبسملة والحمدلة والصلاة على النبي، وسرد الموضوع المراد، ثم الجلوس بين الخطبتين، فالدعاء في نهايتها... وللخطيب صفاته ومميزاته عن الذين يتقنون فنّ الكلام كذلك، كتقواه وورعه وعلمه وحفظه القرآن والأحاديث النبوية ومعرفته بالأحكام الشرعية وما إلى ذلك... أمّا أن تكون الخطبة بصوت قعقاعيّ فهذا كان قبل اكتشاف مكبّرات الصوت، فالتقنيات السمعيّة ووسائل التكنولوجيا لم تترك مجالاً إلا دخلته، فقد اخترعت الميكروفونات ومكبّرات الصوت والسمّاعات السلكيّة واللاسلكيّة، وبفضل الله، وبمجهود القائمين على المساجد أضحت هذه التقنيات في متناول معظم المساجد إن لم يكن في جميعها.

إذن؛ لم الصراخ والصدح بالصوت؟ ألم تكفِ هذه الوسائل أن تطرح عن الخطباء العناء الذي يتكبّدونه وهم يلقون خطبهم؟! سمعت موقفاً أضحكني وآلمني من فتى مسلم قدم من الغرب، لا يفهم من العربيّة إلا القليل، ففي الجمعة الماضيّة ذهب إلى الصلاة متحمّساً، وكان على خلاف ذلك في الجمعة اللاحقة، وحين عرفت السبب تبيّن أنّه انزعج من الإمام؛ بحجّة أنّه كان يشير إليه بين الحين والآخر، وهو يصرخ عليه ! ونجد معظم المصلين ينفرون من الخطبة كذلك لطول وقتها، إذ يطلق الخطيب العنان للسانه، فلا يستطيع لجمه قبل أن تمضي ساعة أو أكثر، فالحاضرون يصغون له دون اعتراض، حفاظاً على أدب من آداب الخطبة أو شرط من شروطها، لكنّ الحديث يحلو من طرف واحد بدون مناقشة أو جدال.

فهل تنقص قيمة الخطبة إذا كانت قصيرة مكثّفة؟! فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه صعد المنبر وخطب، وكانت خطبته قراءة سورة قصيرة واكتفى. إذن؛ على من يقع اللوم في انتشار هذه الظاهرة؟ أعلى الخطيب؟ أم على المخطوب به؟ أم على الاثنين معاً؟ أم على وزارة الأوقاف التي بدأ الناس يفشون سرّ يحتاج إلى تمحيص، وذلك بأنها لا توافق إلا على الخطب التقليدية، بدعوى فصل الدين عن الدولة!

* أكاديمية أردنية - جامعة الزيتونة الأردنية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد