السكرة الأخيرة

mainThumb
السكرة الأخيرة

01-07-2025 02:16 AM

في واحدة من أبشع الكوارث الصحية التي عرفها الأردن في السنوات الأخيرة، راح ضحية الخمور المغشوشة حتى اللحظة تسعة مواطنين أردنيين، فيما يرقد أكثر من أربعين آخرين على أسرّة الشفاء، بينهم ما لا يقل عن عشرة في حالة حرجة، جراء تناول مشروبات كحولية مُركّبة بمادة "الميثانول" السامة. هذه المادة التي تُستخدم عادة كمذيب صناعي أو وقود، تحوّلت في هذه الحادثة إلى سمّ قاتل تسلل إلى أجساد الضحايا دون رحمة، في مشهد يعكس مدى هشاشة الرقابة، وخطورة التفلت من القوانين والمعايير الصحية.

إن الكارثة لا تقف عند حدود الوفيات، بل تتعداها لتلامس جوهر الأمن الصحي والاجتماعي في البلاد. نحن لا نتحدث هنا عن "حادث فردي" أو "غلطة تصنيع"، بل عن جريمة مكتملة الأركان، ارتكبها مصنع غير مسؤول، تم ضبط القائمين عليه وهم يخلطون الميثانول القاتل في زجاجات يُفترض أن تكون مخصصة للاستهلاك البشري. والنتيجة: موت صامت لأبرياء، لا ذنب لهم سوى أنهم وثقوا بما يُعرض في الأسواق، أو انساقوا خلف لحظة غياب وتهور.

المعلومات الرسمية التي أدلى بها مدير الشؤون الفنية في وزارة الصحة، الدكتور عماد أبو يقين، كشفت أن من بين الضحايا من تجاوزوا الخمسين عامًا، وأن حالات الوفاة تنوّعت بين البالغين وحتى كبار السن، وبينهم أقارب. هذه الكارثة إذًا لم تضرب فئة بعينها، بل استهدفت شرائح مختلفة من المجتمع، ما يفضح حجم الخطر الكامن في انتشار مثل هذه المنتجات القاتلة دون رقابة فعلية.

ورغم الجهود الأمنية المبذولة، والتي تمثلت بمداهمة المصنع والمستودعات المرتبطة به، وجمع كميات كبيرة من الكحول المغشوش من الأسواق، فإن ما حدث يدق ناقوس الخطر، ويستدعي وقفة وطنية جادة تتجاوز مجرد ردود الفعل الآنية. نحن بحاجة إلى نظام رقابي أكثر شدة وفعالية، وإلى قوانين تُنفذ لا تُجمل على الورق، وإلى فرض ضرائب عالية على هذه المواد، للحد من انتشارها وتشجيع العزوف عنها، لا سيما وأن تعاطي الكحول لا يحظى بأي قبول ديني أو مجتمعي في الغالبية الساحقة من المجتمع الأردني.

لكن، وبينما ينهال البعض بسهام اللوم والتجريح على الضحايا، علينا أن نتذكر أن الكارثة أكبر من مجرد "سُكْرة أخيرة". هؤلاء بشر، مثلنا تمامًا، أخطأوا في لحظة ضعف أو استسهال، لكنهم لا يستحقون سوى الرحمة. لا يملك أحد أن ينصب نفسه قاضيًا عليهم وهم في القبور، فكلنا خطّاؤون، وكلٌّ له ماضيه وظروفه. علينا أن نُحسن معاملة أهلهم وأحبّتهم، وأن لا نحول المأساة إلى ساحة شماتة وتشفٍ، فهذا ليس من الإنسانية في شيء.

الحرية الشخصية، وإن اختلفنا معها أو لم نمارسها، كفلها الدستور، ويجب أن تُحترم، لكن بشرط ألا تؤذي الآخرين أو تتعدى حدود السلامة العامة. والمطلوب اليوم ليس جلد الضحايا، بل محاسبة الجناة الحقيقيين: أولئك الذين صنعوا الموت وباعوه في زجاجة، بلا وازع من ضمير أو مسؤولية.

علينا كأردنيين أن نتوقف عن التعامل مع مثل هذه القضايا كأنها حوادث عرضية. إنها جريمة واضحة، لها ضحايا، ولها فاعلون، ولها تقصير مؤسسي يجب أن يُحاسب. الصحة العامة ليست ملفًا ثانويًا، بل هي أساس وجودنا كدولة ومجتمع. فلتكن مأساة الميثانول محطة تحوّل في التعامل مع ملف المشروبات الكحولية غير القانونية، لا مجرد فاجعة نمررها إلى الذاكرة ثم ننساها كما نسينا غيرها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد