يلعن روحك!! ثمرة القهر وجزاء الاستبداد

mainThumb

23-12-2011 11:50 PM

أنّه رصيدُ القهرِ الذي تكدّس في النّفوس المكبوتة على مدى أربعين سنة ويزيد، حيث كانت أذرع النظام، وأجهزته الوحشيّة حريصة على تجميعه، واستنباته وتثميره ببراعة منقطعة النّظير، بين مثيلاتها مِن النُّظم الشّمولية في العالم.

كانت ثوراتُ العربِ المباركة مبدعةً فيما أسفرت عنه، وكشفته من طاقات كامنة، وقدرات نائمة في ذاكرة الشّعوب المعتقلة بفعل البطش المتسلِّط، لكن الإبداع في سوريا فاق كُلَّ التّوقعات وجاوز كلَّ الظُّنون.

كان لافتا للنّظر ذلك الأداءُ الذي جاء به الثّائرون في سوريا، والذي شكّل بحقٍّ ملحمةً للحريةِ قَلَّ نظيرها في التّاريخ المعاصر مِن زاويتين اثنتين:

-  أولاهما وحشيَّةُ النّظام الذي تَقنّع طويلا بقناع العُروبة، وتلبّس لَبُوس المقاومة والممانعة خاصّة في السّنوات الأخيرة، فخادع بهما جمهرةً مِن السّاذجين، وظنّ أنْه استطاع سَتر سوأته وطمسَ ظُروف نشأته، ومُسلسلَ فجائعه على يد السّفاح الكبير،وشقيقه في حماة وحلب وتدمر وحمص وغيرها من المدن السّورية.

-  وثانيتهما تغافُل المجتمع الإنساني عمَّا يجري، وتعاضُدُ الجميع - بِمَن فيهم العرب - على استنفاذ كلِّ وسيلةٍ تُهيّئُ للنّظام الطّاغي في عهد الابن والشقيق أيضا إمكانيةَ إيقافِ عقارب السّاعة، وتكرارِ فرضِ حالة الإذعان بالخيارِ الأمنيّ، على جماهيرَ ما كان يدورُ في ذهنِ أحدٍ أنْ تَجرؤَ على رفعِ رؤوسها مرة أخرى، كلّما ردّتها الذّاكرة إلى الأيام المتّشحة بالسّوادِ والعار.

لكنّ الزاوية الميّتة في المرآة، والتي ربما خفيت على الكثيرين، فتتمثلُّ بالمهرجان الفلكلوري الكبير الذي مثّل الجغرافيا السورية، وتفرّدت به ثورتها على شقيقاتها في البلاد العربيّة، وَعكَسَ التّنوعَ الثّقافي والسّكّاني، ووحدة المضامين والمطالب، لدى الجمهور العريض، ولم يكن مستغربا ما تردّدُهُ الحناجرُ مِن نقمة على النّظام الحالي برموزه، إلا أنّ المثيرَ في هذا كلِّهِ، ذلك التّلاقي بل الإصرارُ مِن الجميع على إسماع الغائب في ثراهُ، ما لم يسمعه طوال حياته، وإغراقه ببرقيات زبدتُها: (يلعن روحك يا حافظ)( حافظ أسد يلعن روحه)( زيل نظامه.. ودق عظامه) وما شابهها.

لم يعشِ الجيلُ الثائرُ جحيمَ الوحشِ الأب، لكنّ النَِّقمة والرّغبة في التّشفي تتأكدّ كلَّ يوم بفعل الوحش الابن، فما كان بالأمس مجرَّدَ رواياتٍ وحكاياتٍ قصّها الأجدادُ والجدّاتُ، والآباء والأمهات لأبنائِهم عن حتّوتة النّظام مع شَعبه، باتَ اليوم حقيقةً يعيشُها الأبناءُ بالصّوت والصّورةِ مما استدعى كلَّ المخزونِ المتخمِّرِ مِن القهر كي يُنْبِتَ في الجيلِ الجديدِ - دُفعةً واحدةً - هذا القدرَ مِن التّحدي، لتجسيد النُّصُبِ، والطّوافِ به، ورَجْمه باللّعنات، كحالة من حالاتِ التّطهُّرِ والتّكفيرِ عن زَمَنِ الإذعانِ الذي أُكْره عليه الآباء والأجداد.

إنَّهُ القانون الإنسانيّ الذي اقتضته الطّبعية في الإنسان المقهور تُجاه مَن تجاوز حدودَ المعقولِ، وتعدَّى مُعادلات المنطق البشري، واستقرّ إلى ما دون الدَّرَكِ الحيوانيّ في العدوانيّة والأذى والقهرِ والافتراء والكذب، كي يُلْعنَ ويُرجمَ في طقوسٍ تتوارثُها الأجيالُ على سجّتها.

وقد مرّت البشريّةُ بنماذجَ مِن هذه الحالة، وبرزت في أدبيّات العربِ شخصيةُ أبي رغالٍ كنموذجٍ يُجسّدُ الغلظةَ والقسوةَ والغدر والخيانة، حتى حلّت عليه النِّقمة التي نزلت بقومه، فهلك بعد خروجه من الحرم، كما في الحديث الذي ضعّفه الألباني عن ابن عمر, فرجمته الأجيالُ المتبرئةُ مِن الفعلِ الخسيس.

وكان قيلَ: أنّه كان دليلَ أبرهةَ الأشرمَ لهدمِ الكعبة، ورُويَ عن ابن عباس أنّه كان عشّارا ( يأخذ العُشر) لنبيّ الله صالحَ عليه السلام، وإِنه أَتى قوماً ليس لهم لِبْنٌ إِلا شاةً واحدةً، ولهم صبيٌّ قد ماتت أُمُّه وهم يرضعونه بلبنها، فأَبى أَن يأْخذ غيرها، فنزلت به قارعة من السماء، ويقال: بل قَتَله صاحب الشاة، فلمّا فَقَدَهُ صالحُ عليه السلام قام في الموسم يسأل عنه، فأُخْبِِرَ بصنيعِهِ، فَلَعَنه،وقبره بين مكة والطائف يَرْجُمه الناس، وهجا به جريرٌ الفرزدقَ فقال:

إِذا مات الفرزدق فارجُموه *** كما تَرْمُون قبر أَبي رِغال

وقال فيه حسّان في هجاء ثقيف: 

إِذَا الثَّقَفِيُّ فَاخَرَكُمْ فَقُولُوا:*** هَلُمَّ نَعُدُّ أُمَّ أَبِي رِغَالِ

أَبُوكُمْ أَخْبَثُ الآبَاءِ طُرًّا *** وأَنْتُمْ مُشْبِهُوهُ عَلَى مِثالِ

وأبلُغ مِن ذلك قوله تعالى في النسخ الجديدة من أمثال أبي رغال: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ}(القصص 42) {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(غافر 52)
  
أتفهّم المشاعر التي تُعشعش في صدور المقهورين، والآلام التي تشرّبها الوعي الجديد مِن قسمات وجوه الآباء المقموعين، وأدرك الاختلالَ الناجم عن رغبة جيل الورثة الجُدد، وبرعايةٍ مِن بقايا المستبدّين القدماء، في ممارسة هواياتهم في الاستبداد، على جيل يفترض أنّه ورث الإذعان، وتشرّبَ المهانة ورَضيَ المذلّة، لكن يبدو أن الرّياح جرت بما لا يشتهيه الأغبياء الغافلون عن سنن الحياة، وما أرى إلا أنّ يدَ القدر قد هيّأت قبور القوم، وأثخنتهم اللعانات قبل الممات، وما هي إلى لحظات  حتى يرجمون رجمَ الشياطين في الجمَرات.

{كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ*وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ*كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ*فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} (الدخان : 25-29 )


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد