من يطالع صحفنا اليومية هذه الايام او يستمع للاذاعات المحلية خصوصا في اوقات الصباح فسيرى ويسمع كم هائل من الاحاديث حول الفساد والفاسدين والامور الفاسدة ، ومع التكرار اليومي للموضوع يتخيل الواحد منا بان الحياة حوله ليست اكثر من وعاء فاسد تتحرك فيه اشياء فاسدة وحوله جغرافيا من الفساد الشامل !!
والتكرار يحفر في النفس مواقع ، ومن طبيعة النفس البشرية خصوصا من عنده قدر من البصيرة وبعد النظر ان ياخذ المواضيع الى ابعد مما تبدو عليه ، ويستغرق احيانا في التوقعات والتحليلات الى درجة فقدان الاهتمام باي موضوع اخر خصوصا في اوقات القراءة والاستماع ، ولما كانت فترات القراءة والاستماع طويلة ومتعدده فسيكون موضوع الفساد هو كل ما في الوان طيف حياتنا ، ونصبح وكاننا نحيا في عالم فاسد . ليس بالفساد وحده يحيا الانسان ، ولاننا نحتاج في يومنا الى اوقات للتفكير والتخطيط والاعداد للمستقبل فلا بد ان لا نعطي لهذا الموضوع اكثر مما يستحق ، فالفساد قد تم والفاسدين قد فسدوا وافسدوا والوضع اصبح فاسدا ، فلا نعرض ما بقي لدينا من وقت او جهد او امكانيات للاستسلام حتى لا يطولها الفساد هي ايضا وبدلا من ان نعض اصابعنا ندما نلقي بانفسنا تحت عجلات الاوضاع البائسة انتحارا.
تعالوا نعطي بقية احتياجات حياتنا حقها من وقت وجهد . ولان الوقت والجهد مهدوران الان في الاستمتاع الساذج ، وفي الاعمال قليلة الجدوى ، وفي المواصلات المضنية ، وفي المناقشات الكئيبة ، وفي التسوق المكلف ، وفي التعبد الذي لا ينزل المطر الا قليلا ، فاني اقترح ان يخلو كل منا الى نفسه ساعة من زمن ويحاول وضع خطة تغيير تكفل له امكانية الاستمرار في العيش المقبول المستوى وتوفر له ما يحتاج من وقت وجهد ومال تساعد على ذلك الى ان ينفذ امر الله على ما شاء الله.
من كان يصرف من وقته ثلاث ساعات امام التلفاز يكفيه ساعة واحدة ترفيهية فليس في التلفاز من جديد منذ اربعين سنه ، ومن يصرف ساعتين من وقته في نقاشات سياسية وتحليلات فكرية يكفيه عشر دقائق لبيان رايه الذي تكون منذ ان بدأ يفكر ولم يطرأ حوله شئء يدفعه لتغيير رايه او قبول الاخر، ومن يصرف من وقته ساعتين في مطعم او كافيتيريا مع الخلان والاصدقاء لا بد انه ادرك ان المنيو قد تقطعت اوصاله بسبب عدم التجديد وتكرار الاستعمال ، يكفيه ان يفعل ذلك مرة في الشهر ان كان يريد الحفاظ على الصورة التي الفها واعتاد فيها على ارتياد الاماكن العامة ، واما الذي يصرف ساعتين من يومه في المواصلات نتيجة للازدحام وكثرة السيارات التي ليس فيها الا سائقها او سائقتها فعليه ان يبكر قليلا في الخروج من بيته وسيرى ان الازدحام في الوقت المبكر اقل بكثير منه في اوقات الذروة وبالتالي فهو ان فعل ذلك فانه يضمن ان يوفر ساعة من الزمن. بهذه التغييرات المحدودة يمكن توفير الزمن الكافي للقيام بالاعمال المفيدة او الاكثر افادة .
مثلا .. تعودنا حين نرى اننا نريد تغيير لون جدران بيتنا بسبب تقادم في الدهان ان نستدعي متخصص لدهان ذلك الجدار ، بينما لا يحتاج دهانه لاكثر من علبة دهان وفرشايه وسلم ووقت، فالوقت قد تم الحصول عليه وتكاليف علبة الدهان والفرشاية والسلم اقل من اجرة المتخصص الذي يقوم بمثل هذا العمل ، اذا فاذا قمنا بذلك بانفسنا نكون قد حققنا العديد من المكاسب اهمها الاستمتاع وتغيير نمط الحياة وبعض المكاسب المادية وهذا كل ما نحتاج اليه لتحسين حياتنا.
نستطيع ايضا ان نستفيد من الوقت الذي وفرناه بان نعطي لانفسنا وقتا للتامل وللتفكير والابداع ، وما احوجنا لذلك هذه الايام ، حيث تمر امامنا في دوائرنا الضيقة العديد من الاحداث وليس لدينا وقت لفهمها وتفسرها ، انظر مثلا الى فاتورة الماء او الكهرباء التي تصلك متذبذبة القيمة ، لماذا هي كذلك ؟ انظر مثلا الى حاويات القمامة الفضية الجميلة التي وضعتها الامانة او البلدية بالقرب من منزلك لماذا ياتي اليها يوميا رجل عجوز يستخلص منها علب المشروبات الغازية الفارغة ؟ من هو هذا الرجل ؟ ماذا يفعل بهذه العلب ؟ اين اهله وذويه ؟ ومن يستفيد من هذه العلب الفارغة ولماذا ؟ انا متاكد من ان المتابع لمثل هذا الموضوع سيجد فيه قصة لم تخطر ببال نجيب محفوظ ولا طه حسين. حينما مر الربيع العربي بمصر الكنانة ، شاهدنا العديد من الشباب يقومون بتنظيف الشوارع وكنسها ودهان حوافها ، نفس الشوارع قبل ذلك الوقت كانت موجودة ولم يقم احد بتنظيفها ولا بدهان حوافها فما الذي تغير ؟ حينما حصل التغيير وحصل الناس على الوقت الكافي للتفكير والتامل اكتشفوا حالة الشوارع واهمية تحسينها فقاموا بذلك طوعا وحبا .
لا يجب ان ننتظر التغيير الشامل حتى نغير ما بانفسنا ، لنجلس برهة نتامل واقعنا ونغير نمط تفكيرنا واسلوب حياتنا حتى نكتشف سبل ووسائل التغيير ثم نقوم بالتغيير. اما الفساد والفاسدين والمفسدين فهي امور في يد القانون والدولة وعلى القانون والدولة القيام بواجبهم نحو اعدة الامور الى نصابها وان لا يضعونا في دائرة الحديث المستمر المتعاظم عنها حتى لا نفقد نحن البوصلة ونبقى الاطار الذي يعشش فيه الفساد وحتى لا ياتي يوم يقوم البعض باحراق ذلك الاطار كما يفعل المحتجون في كل بقاع الارض.